عندما يضرب الفلسطينيون دبلوماسية إسرائيل الرقمية
يمثل التأييد العالمي، غير المسبوق، الذي حظيت به القضية الفلسطينية، خلال الأحداث في فلسطين أخيراً، تحولاً استراتيجياً، لا يمكن الاستهانة به، في توجّهات الرأي العام العالمي نحو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فقد شكلت الأحداث في حيّ الشيخ جرّاح في القدس المحتلة وقطاع غزة نقطة تحول في الطريقة التي ينظر فيها الرأي العام العالمي إلى الصراع، وأعادت الأخير إلى مفرداته الأساسية، إذ لم يعد يُنظر إلى الصراع على أنه نزاع بين طرفين غير متكافئين في القوة فقط، بل على أنه قضية حرية وعدالة للفلسطينيين واحتلال وتمييز عنصري إسرائيلي ضدهم.
وتتمثل أبرز معالم هذا التحوّل العالمي بمواقف رسمية صدرت عن مسؤولين سياسيين عديدين في العالم الغربي، بمن فيهم أعضاء في أحزاب ذات ثقل سياسي، كما هو الحال مع الحزب الديمقراطي في الكونغرس الأميركي وحزب العمال البريطاني، حيث نادى أعضاء من الطرفين بضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وحرية فلسطين، مستخدمين مصطلحات تصف لأول مرة الاحتلال على حقيقته، مثل الفصل العنصري والتطهير العرقي وغيرهما.
لم يكن المزاج الشعبي بعيداً عن هذا التغير في المواقف، حيث اجتاحت التظاهرات الضخمة عشرات من عواصم العالم، دعماً للفلسطينيين، وتنديداً بالسياسات الإسرائيلية ضدهم. وما زالت بعض من مدن العالم وعواصمه، مثل لندن، تشهد مظاهراتٍ مندّدة بتلك السياسات، وتطالب بفرض العقوبات على دولة الاحتلال. كذلك انضمت كوكبة من المشاهير والمؤثرين في العالم إلى هذا التغير في المواقف، تمثل ذلك بدعم عشرات من المشاهير والنجوم للفلسطينيين عبر صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ومنهم من شارك فعلياً في المسيرات التضامنية مع الفلسطينيين.
يعود الفضل في هذا التحول الاستثنائي في مواقف الرأي العام الغربي إلى جهود الفلسطينيين والداعمين لهم عبر منصّات التواصل الاجتماعي المختلفة، إذ اجتاح عشرات من النشطاء والصحافيين الفلسطينيين والداعمين العرب والأجانب مواقع التواصل المختلفة، لنشر الرواية الحقيقية للأحداث على أرض الواقع لحظة بلحظة، وفضح السياسات الإسرائيلية على الأرض، سواء في مدينة القدس أو قطاع غزة، مخترقين بذلك جدران الصمت التي كانت، حتى وقت قريب، تمارسه القنوات الإعلامية الغربية التقليدية. وهكذا كان في وسع العالم بأسره متابعة مجريات الأحداث مباشرة من دون تضليل أو المرور عبر حارس البوابة كما دأب الإعلام الغربي التقليدي على فعله، انحيازاً لإسرائيل، ورضوخاً لضغوط اللوبيات الصهيونية في العالم الغربي.
يبدو أن الرأي العام الغربي، على وجه الخصوص، وصل إلى قناعة بانحياز إعلامه التقليدي لإسرائيل، فلجأ إلى منصّات الإعلام الرقمي لتلقي الأخبار والأحداث أولاً بأول
ويبدو أن الرأي العام الغربي، على وجه الخصوص، وصل إلى قناعة بانحياز إعلامه التقليدي لإسرائيل، فلجأ إلى منصّات الإعلام الرقمي لتلقي الأخبار والأحداث أولاً بأول. وهكذا، تمكّن ملايين من الناس من مشاهدة ما يجري في حيّ الشيخ جرّاح المهدد بالتطهير العرقي، من عمليات تهويد واعتقال واعتداء وحشي على سكان الحيّ والمتضامنين معهم.
يُضاف إلى ما سبق، ذكاء النشطاء الفلسطينيين هذه المرّة في توظيف أصوات الأطفال والشباب والنساء باللغة الإنكليزية، للتعبير عن مجريات الأحداث، خصوصاً ممن كانوا هدفاً مباشراً للاعتداءات الإسرائيلية، سواء في القدس أو قطاع غزة خلال العدون الإسرائيلي أخيراً عليه.
المثير للسخرية أن الإعلام الرقمي الذي توظفه تل أبيب، منذ نحو عقد، لتلميع صورة الاحتلال في أذهان الرأي العام العربي والدولي، هو ذاته الذي انقلب على دبلوماسيتها الرقمية أخيراً. فالنجاح الفلسطيني في إعادة توجيه الرأي العام الغربي نحو قضيتهم وجّه ضربة إلى مشروع كبير كانت تعمل عليه تل أبيب منذ نحو عقدين، عبر دبلوماسيتها الرقمية، خصوصاً في المنطقة العربية، يتمثل بالحصول على قبول عربي رسمي وشعبي، بدا وكأنه بدأ يتحقق في اتفاقيات تطبيعية مع دول في الخليج العربي، واختراق ثقافي لشبابها، لكن ما حصل هو العكس تماماً؛ فبينما صمتت أصوات المطبّعين إزاء الاعتداءات الإسرائيلية وجرائم الاحتلال ضد الفلسطينيين، أخيراً، إما شعوراً بالخزي أو الإحراج من هذه الاعتداءات على المسجد الأقصى وحيّ الشيخ جرّاح، ومن ثم على المدنيين والأطفال في قطاع غزة، حظي الفلسطينيون بطوفان من الدعم العالمي معهم.
تحول استثنائي في مواقف الرأي العام الغربي يعود إلى جهود الفلسطينيين والداعمين لهم عبر منصّات التواصل الاجتماعي
ما سبق يعني أن الفلسطينيين نجحوا في التأثير سلباً بجهود الدبلوماسية الإسرائيلية ورواياتها التضليلية للرأي العام خلال العقد الماضي. إذ لم تترك إسرائيل جهداً إلا كرسته في السنوات الأخيرة لتحسين صورتها عربياً وعالمياً، بعد أن تعرّضت لانتقاداتٍ دوليةٍ كثيرة، خصوصاً على خلفية حروبها العسكرية ضد قطاع غزة، فاستثمرت لأجل ذلك في الدبلوماسية الرقمية، حتى تسلقت أولى درجاتها على مستوى العالم. وقد حاولت تل أبيب، عبر هذه الدبلوماسية، ارتداء ثوب الدولة الديمقراطية والمحبّة للسلام، لكنّ الهبّة الشعبية الفلسطينية التي انطلقت من القدس في منتصف إبريل/ نيسان الماضي، وما زالت مستمرة، والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وغيره من الاعتداءات في الضفة الغربية، ساهمت في زعزعة هذه الجهود والتأثير فيها. وفي هذا المقام، لا بد من تأكيد أهمية استغلال الفلسطينيين، على المستويات الرسمية والشعبية كافة هذا الحدث المهم، وترجمة التحول في مواقف الرأي العام العالمي وسلوكه إلى موقف رسمي فاعل ومساند للفلسطينيين باستمرار. وتقع على عاتق السفارات والبعثات الدبلوماسية الفلسطينية في العواصم الغربية مسؤولية تعزيز هذا الدعم الشعبي، ليضغط بدوره على المنظومة الرسمية الدولية لتبنّي مواقف فاعلة نحو الفلسطينيين، فالتجارب التاريخية تُفيد بأن الرأي العام العالمي لا يتأثر إلا على وقع أحداث كبيرة، فيتحرّك لفترة مؤقتة تنتهي بزوال الحدث. وعلى الرغم من أن هذا الحراك يمثل قيمة إنسانية ومعنوية، لا يمكن الاستهانة بها، لأنها قد تؤدّي، في بعض الحالات، إلى تشكيل لوبيات ضغط على صناع القرار السياسي، لكنها تبقى في إطار الدعم الإنساني الموسمي العابر. لذلك لا يمكننا التعويل على حراك الرأي العام الغربي، من دون أن ينفذ الفلسطينيون والداعمون لهم استراتيجيات تحافظ على يقظة الضمير العالمي، وحسّه التضامني مع الفلسطينيين، ولا سيما أنّ إسرائيل نجحت، سنوات طويلة، في كسب الإعلام الغربي لجانبها، وهو ما ترك أثراً على سردية القضية الفلسطينية، وأفقد الفلسطينيين التضامن الدولي معهم.