الدبلوماسية الرقمية الإسرائيلية في أجواء التطبيع
من كان يتصوّر أن يأتي اليوم الذي يُهنّئ فيه شبان عرب دولة الاحتلال الإسرائيلي بمناسبة يوم "استقلالها"، أي النكبة التي ارتكبها الاحتلال عام 1948 بحق الفلسطينيين، فقتل منهم وهجَّر عشرات الآلاف. الأنكى من كان يتخيّل أن يقرأ منشورًا لشاب عربي يتمنّى فيه الموت للفلسطينيين، والأمن والاستقرار للإسرائيليين؟ على محدودية أعداد هؤلاء، لم تكن فعلتهم هذه لتحدُث، لولا جهود حثيثة تبذلها وزارة الخارجية الإسرائيلية عبر دائرة الدبلوماسية الرقمية منذ نحو عقد، لبناء صورة ذهنية إيجابية عن الاحتلال لدى العرب، ودفعهم نحو القبول بـ"إسرائيل" دولة طبيعية، تؤمن بالسلام معهم.
وإن كان ما نشهده أخيرا من قبول عربي بإسرائيل نسبيًا، ولا يمثّل إلا شريحة لا تكاد تُذكر ممن استطاع الاحتلال اختراق وعيها والتلاعب بسلوكها وتوجهاتها الفكرية، إلّا أنّ ذلك يدعونا إلى عدم الاستهانة بذلك، ولا سيّما أنّ الدبلوماسية الرقمية الإسرائيلية تُصعّد أخيرا خطابها الإعلامي الموجّه إلى العرب، لكسب مزيد من التأييد في صفوفهم.
ما نشهده أخيرا من قبول عربي بإسرائيل نسبيًا لا يمثّل إلا شريحة لا تكاد تُذكر ممن استطاع الاحتلال اختراق وعيها والتلاعب بسلوكها وتوجهاتها
اللافت أنّ فريقًا إسرائيليًا صغيرًا يقود هذه المعركة الضخمة للتسلل إلى العقول العربية، متسلحًا بالكفاءة والخبرة الأمنية والاطّلاع على الوضع العربي عن كثب، إلى جانب قدرته على استخدام أساليب استمالة الآخرين، والتأثير في معتقداتهم وأفكارهم. كما يشارك مسؤولون إسرائيليون كثيرون عبر صفحاتهم الرقمية بهذه الجهود، أبرزهم النّاطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي، والذي لا يترك شاردة أو واردة إلا ويستغلها للتقرّب من العرب لتحسين صورة "إسرائيل" دولة متسامحة مسالمة، متسلحًا لذلك بالنصوص الدينية ومتّشحًا بشخصية الواعظ الديني. في المقابل، لا يلقى هذا العمل أي رد رسمي فلسطيني أو عربي، بل يقف الطرفان في حالة عجز أمام الدبلوماسية الرقمية الإسرائيلية، أو ربما استخفاف بها، وما يمكن أن تحققه اعتمادًا على عامل الزمن.
بعد اقتناص الاحتلال الفرصة التاريخية في تطبيع العلاقات مع عددٍ من الحكومات العربية قبل أشهر معدودة، فعّلت تل أبيب خطابها الإعلامي بالعربية عبر دبلوماسيتها الرقمية، فالمتابع للصفحات الإسرائيلية الناطقة بالعربية سيلحظ ارتفاعًا في نسبة المنشورات عليها بواقع أكثر من 600 منشور خلال الشهر الواحد، تركز مضامينها، أولًا وأخيرًا، على أهمية السّلام العربي مع إسرائيل، والعوائد الإيجابية للتطبيع على الدول المنخرطة فيه. لذا؛ تُكرّر هذه الصفحات، بل تبالغ في نشر مقاطع فيديو تُظهر الأصوات العربية الداعمة للتطبيع، إلى جانب تناول منشوراتٍ تدعو الشعوب العربية صراحةً إلى الانضمام لقافلته. كما تتعمّد المنشورات الرقمية إظهار الزيارات التطبيعية لشبانٍ عربٍ من الدول المطبعة حديثًا إلى الداخل الفلسطيني المحتل عام 1984، بوصفها إسرائيل، ومدينة القدس المُحتلة، ونسبة هذه "الإنجازات التاريخية" إلى اتفاقيات التطبيع. وبالطبع، تُرفق هذه المنشورات بصور تجمع إسرائيليين وعربًا في أجواء دافئة وعاطفية. وبثّ مثل هذه المواد الإعلامية وتكرارها يُدللان على تفعيل المعركة الرقمية لكسب مزيد من العرب. وهو ما أشار إليه المتحدث باسم رئيس وزراء حكومة الاحتلال، أوفير جندلمان، حينما قال إنَ توسيع نطاق السّلام الإقليمي يتطلّب تصعيد المعركة الرقمية في مخاطبة العرب. ويذكّرنا هذا الخطاب بتكتيكات الدعاية التي تبنّتها الحركة الصهيونية عند التأسيس، وهي مقتبسة من "البروباغندا" النازية التي تؤمن بأنّ فعالية الدعاية تكمُن في التركيز على أحداثٍ معينة، وتوجيه آذان الناس وأبصارهم إليها باستمرار. وهنا الخطر الحقيقي، فمع تكرار الأحداث يصبح عنصر التأثير بالشباب العربي ممكنًا، ما يعني احتمال استحداث رأيٍ عام جديد يقبل بما كان مرفوضًا في وقت سابق، فينتقل قطار التطبيع من رأس الهرم إلى القاعدة الشعبية، وهو أمرٌ تسعى تل أبيب إلى تحقيقه منذ عقود.
الرأي العربي العام ما زال مدركًا حقيقة المعركة على أرض الواقع، ومؤيدًا للقضية الفلسطينية
كما يعتمد الخطاب الإسرائيلي الرقمي استراتيجية استثارة العواطف، عبر استحضار تاريخ الجاليات اليهودية في دول عربية قبيل "الهجرة" إلى فلسطين، بغرض دفع العرب نحو التسامح والشوق لسنين خلت. العراق من أهم هذه الدول التي تركّز عليها الدبلوماسية الرقمية الإسرائيلية، فعلى الرغم من العداء الشديد بين البلدين، إلا أنّ جهودًا كبيرة تُبذل أخيرا من الاحتلال لنسج علاقات مع القاعدة الشعبية، والفوز بتأييدها وصولًا إلى قمّة الهرم الحاكم، على عكس ما جرى مع حكومات الإمارات والبحرين والسودان والمغرب. وكانت دائرة الدبلوماسية الرقمية الإسرائيلية قد استحدثت في العام 2018، صفحة "إسرائيل باللهجة العراقية" للتواصل مع المواطنين العراقيين. وأخيرا، أصبح الخطاب الإعلامي لهذه الصفحة عاطفيًا، يُغازل الناس بلهجتهم المحلية، ويستعرض تاريخ اليهود في بغداد في بداية القرن العشرين، والحياة التي عاشوها مع جيرانهم العرب. ولا تكتفي الصفحة بذلك فحسب، بل تتعمّد نشر قصص يهودٍ بالصوت والصورة، وهم يتحدّثون عن الحنين لبلد المنشأ وأهله.
مجددًا، استثارة العواطف بهذه الطريقة تمثّل إحدى استراتيجيات الدعاية الصهيونية القديمة. وإن كانت هذه الاستراتيجية هدفت سابقًا إلى كسب التأييد العالمي لإنشاء دولة الاحتلال في فلسطين، فإنها اليوم تستهدف العرب الذين لطالما صوّرتهم الدعاية الصهيونية العدو الأبرز الذي يهدّد شرعية هذه الدولة وحق اليهود في تقرير مصيرهم.
جهود كبيرة يبذلها الاحتلال لنسج علاقات مع القاعدة الشعبية، والفوز بتأييدها وصولاً إلى قمّة الهرم الحاكم
ويعود التوجّه الإسرائيلي نحو القوة الناعمة بعد اعتماد القوة العسكرية أكثر من ستة عقود إلى عدة أسباب: أولها، تنامي الانتقادات الدولية لتل أبيب على خلفية حروب الاحتلال ضد العرب والفلسطينيين، بدءًا من الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، مروراً بحرب لبنان في يوليو/ تموز 2006، وصولًا إلى الحروب المتتالية على غزة (2008، 2012، 2014)، فقد دفعت تلك الانتقادات المستوى الرسمي الإسرائيلي إلى تبنّي استراتيجية جديدة، لتجميل صورة الاحتلال عالميًا، وتحويله إلى ضحيّة في محيط عربي مليء بالدكتاتورية والكراهية. ثانياً، بفضل الثورة الرقمية، حقق النشطاء والإعلاميون الفلسطينيون نجاحاتٍ في نقل الرواية الفلسطينية إلى العالم، وتعرية الاحتلال خلال فترات الحروب؛ فكان الردّ الإسرائيلي بشن حملاتٍ دعائيةٍ مضادّة للرواية الفلسطينية والداعمين لها، فضلاً عن فرض قيودٍ على تلك الرواية بالتواطؤ مع شركات التكنولوجيا الكبرى. أخيرًا، وجدت تل أبيب بالمنصّات الرقمية فرصة تاريخية لاختراق الشعوب العربية، والتواصل معها لأوّل مرة في تاريخ دولة الاحتلال، بهدف الترغيب لها، مقابل شيطنة الفلسطينيين وعزلهم عن محيطهم العربي.
يمكن القول إنّ دولة الاحتلال نجحت، ولو جزئيًا، عبر المنصات الرقمية، في تمهيد الطريق إلى اتفاقيات التطبيع الموقعة أخيرا مع الأنظمة الحاكمة، لتصبح هذه الدبلوماسية نهجًا بنيويًا في "الدعاية" الإسرائيلية الحديثة. لكن هل يمكن لهذه الدبلوماسية التحكّم في وعي ملايين العرب الذين يعيشون في منطقة الشرق الأوسط؟ المهمّة صعبة، ولا سيّما أنّ الرأي العربي العام ما زال مدركًا حقيقة المعركة على أرض الواقع، ومؤيدًا للقضية الفلسطينية. بالتالي؛ ليس من السهل تغيير التاريخ وتزييفه في المخيّلة العربية، وهذا ما يبدو واضحًا من خلال سيل التعليقات الشبابية السلبية على المنشورات الإسرائيلية. مع ذلك، يجب عدم مقابلة الجهود الإسرائيلية الرقمية باستخفاف، أو استبعاد فكرة تأثير هذه الدبلوماسية في عقول الجماهير العربية واتجاهاتها الفكرية على المدى البعيد، خصوصا في حال واصل الفلسطينيون والعرب غفلتهم عن الأمر، كما فعلوا خلال العقد الأخير، حتى تسلّقت "إسرائيل" سلّم الفضاء الرقمي، واخترقت الشباب العربي بعد عجزها عن ذلك عقودًا طويلة.