عندما يصبح الصاروخ الباليستي أوكراني الصنع

01 سبتمبر 2024
+ الخط -

وصف الرئيس الأميركي جو بايدن، في 26 الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، في تعليقه على الهجوم الروسي على منشآت الطاقة في أوكرانيا بأنه "شائن". وقال إن "روسيا التي تسعى إلى إغراق الشعب الأوكراني في الظلام لن تنجح أبداً"، متعهّداً بمواصلة تقديم الدعم لكييف. وكانت روسيا قد أطلقت في ذلك اليوم مئات الطائرات المسيّرة والصواريخ على أوكرانيا، مستهدفةً منشآت الطاقة هناك، في هجومٍ واسع النطاق أدّى إلى مقتل ستة مدنيين وإصابة عشرات.

هي حرب روسيا على أوكرانيا التي بدأتها موسكو في 24 فبراير/ شباط 2022، بهدف حماية أمنها القومي من التقدّم الحدودي لحلف شمال الأطلسي (الناتو) والتي سرعان ما كشفت خلفيات مسببي الحرب أنها ليست حرباً ترتبط بالأمن بل تحمل أبعاداً مختلفة؛ فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يطمح من خلالها لعودة نفوذ الإمبراطورية الروسية، وبناء أوراسيا العظمى، ويعمل مع صديقه (إلى الآن) الصيني شي جين بينغ، لإحداث تغييرٍ في النظام العالمي. أما من جانب داعمي كييف في الحرب، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، فنيات دعمها لا تتوقف عند جعل كييف غير مهزومة، لأنها تقرأ الحرب من منظار المصالح الأميركية بعيداً عن مآسي الشعب الأوكراني وخطر توسّعها إلى العمق الأوروبي الصديق (المفترض) لواشنطن.

غيّر إعلان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي معادلة الحرب، التي كانت قائمة على مدّ الغرب للجيش الأوكراني بالأسلحة المتطوّرة المشروطة بعدم استهداف العمق الروسي فيها. لكن ما كشفه زيلينسكي أن "جيشه أجرى أخيراً اختباراً ناجحاً لأول صاروخ باليستي محلي الصنع"، رسم معالم جديدة للحرب الروسية الأوكرانية، ورفع من مستوى التحدي، وفعلاً أصبح أمن روسيا القومي بخطر. قال في مؤتمر صحافي في كييف في اليوم التالي أنه "جرى إجراء تجربة إيجابية لأول صاروخ باليستي أوكراني، أهنئ صناعتنا الدفاعية على ذلك"، رافضاً تقديم تفاصيل إضافية عن هذا الصاروخ الجديد.

وكان وزير الدفاع الأوكراني رستم عمروف قد أعلن، في وقتٍ سابقٍ، بحسب صحيفة كييف أندبندنت، أن بلاده تستعدّ للردّ على الضربات الجوية الروسية "بأسلحة من إنتاجها الخاص".

واضح أنّ الحرب الأوكرانية التي شارفت على دخولها عامها الثالث، بدأت تأخذ مسارات جديدة من التصعيد، ما يُنذر بأنها باتت قاب قوسين من الانزلاق نحو الحرب الكبرى، أي العالمية الثالثة. وهذا ما حذّرت منه روسيا واشنطن، أن اندلاع حرب عالمية ثالثة لن يقتصر على أوروبا، وقالت إن السماح لأوكرانيا بضرب أراضيها بأسلحة غربية "لعب بالنار"، في حين كشفت كييف عن استخدامها طائرات "إف - 16" الأميركية في مواجهة التصعيد الروسي. لكنه السؤال: ماذا لو ضُربت موسكو بصواريخ من تصنيع كييف، فهل هذا أيضاً مبرّر روسيّ للانزلاق نحو حربٍ عالمية؟

وضعت إدارة بايدن منذ وصولها إلى البيت الأبيض عام 2021 سياسة احتوائية للقوى الصاعدة في العالم، في مقدمتها روسيا والصين؛ إذ أدركت تلك الإدارة أنّ عليها فتح ثغرات أمنية في مناطق النفوذ في العالم، لإحداث قلقٍ استراتيجيٍ لتلك الدول التي تعمل على قلب النظام العالمي وإبعاد النفوذ الأميركي عن السيطرة الدولية.

لا تريد واشنطن أن تشترك مباشرةً في الحرب الروسية، لكنّها واضحة في دفع الدول الأوروبية إلى اعتماد سياسة "سباق التسلّح" التي تُعتمد قبل أي حرب عالمية

أدركت إدارة بايدن أنّ سياسة سلفه المرشّح الجمهوري الحالي إلى الرئاسة، دونالد ترامب، تسبّبت بخطأ تاريخيٍ عندما كرست الطلاق مع حلف شمالي الأطلسي (ناتو)، في محاولة منه لسحب قواته من بعض الدول الأوروبية. وإن تصاريح الجمهوري اليوم بوقف نزيف الحرب في أوكرانيا لصالح روسيا، سيهدّد سياسات واشنطن على الصعيد العالمي. لهذا يعتبر البعض أنّ واشنطن تسارع الخطوات نحو توسيع دائرة الحرب في شرق أوروبا، فهي باركت خطوة الجيش الأوكراني في احتلال مناطق روسية في منطقة كورسك، رغم ما يشكّل ذلك من رمزية استفزازية لمن تمتلك أقوى ترسانة نووية في العالم.

لقد خرج وزير الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، على إثر تطوّر الأحداث في بلاده، بتهديدات واضحة تتضمّن تحذيراً من أنّ نشوب حرب عالمية ثالثة مرهون بالعقيدة الروسية النووية التي جرى تعديلها، والتي لن تصيب دولاً أوروبية. وهذا تهديد ليس عادياً، لأنه يتوجّه إلى الأميركي. لهذا، يعيش العالم لحظاتٍ من الرقص على حافّة الهاوية، خصوصاً بعد إعلان كييف عن تطوير برنامجها الصاروخي الباليستي القادر على ضرب العمق الروسي، وصولاً إلى العاصمة موسكو.

لا تريد واشنطن أن تشترك مباشرةً في الحرب الروسية، لكنّها واضحة في دفع الدول الأوروبية إلى اعتماد سياسة "سباق التسلّح" التي تُعتمد قبل أي حرب عالمية، الأمر الذي يُنذر بأنّ الولايات المتحدة تسعى إلى توسيع دائرة الصراع هناك، لأهداف ترتبط برؤيتها الاستراتيجية، وهي سياسة التخويف الأوروبي من الدبّ الروسي، ما يسمح لوزارة الدفاع الأميركية بنشر مجموعة كبيرة من صواريخها وقنابلها النووية في مناطق متفرّقة من أوروبا، بهدف احتواء أيّ هجوم روسي نووي مباغت عليها.

يترقّب العالم سير العمليات العسكرية القائمة في شرق أوروبا، مع بروز عنصر الخوف من دائرة التوسيع والاستهداف

بالعودة إلى الصاروخ الباليستي أوكراني الصنع، يتوقّف بعضهم عند نيات الكشف عنه في هذه المرحلة، التي تتحضّر فيها روسيا إلى إطلاق قمة مجموعة "بريكس" في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، في مدينة كازان الروسية بمشاركة زعماء خمس دول، الرئيسية فيها. هذه المجموعة التي تدخل في صراع الاستراتيجيات بعدما فتحت باب الدخول إليها لمجموعة دول، منها مصر وإيران وغيرها. وتدخل المجموعة في الصراع العالمي الحاصل، حيث تهدف إلى كسر هيمنة الدول الاقتصادية الغربية الكبرى، أو ما يُعرف بمجموعة السبع، من خلال اعتماد خطوات على رأسها تقليل الطلب على الدولار لكسر هيمنته، وسحب ورقة ضعط إضافية من يد واشنطن.

يجد بعضهم أن تصنيع مثل صواريخ في أوكرانيا كهذه سيشكّل انتكاسة في الحرب إلى روسيا بحيث أصبحت واشنطن متحرّرة من أيّ ضربة في العمق الروسي، ومن تعطيل أيّ قمة تحصل على أراضي روسيا من خلال تبريراتٍ، في مقدمتها أنّ الأسلحة المستخدمة في ذلك ليست صناعة أميركية بل تطوير محلي أوكراني.

يترقّب العالم سير العمليات العسكرية القائمة في شرق أوروبا، مع بروز عنصر الخوف من دائرة التوسيع والاستهداف، مع تطوّر بارز لصناعات كييف عسكرياً، فوسط إصرار أميركي على استمرارها، وحماسة روسيا على تحقيق مكاسب سريعة من عمليتها العسكرية الخاصة يأتي الصاروخ الباليستي الأوكراني ليعيد خلط الأوراق ويضع الحرب في مسار مختلف؛ فهل هذا الصاروخ وغيره من الأسلحة التي قد تكشف عنها كييف سيدفع نحو حربٍ نوويةٍ حتمية؟