عندما يحدّثون المصريين عن فوائد أرجل الدجاج

28 ديسمبر 2022
+ الخط -

نقلت مواقع صحف وقنوات تلفزيونية مصرية، أخيراً، تصريحات لمسؤولين وإعلاميين وضيوفهم عن فوائد تناول أرجل الدجاج وجبة رئيسية... وبالبحث في هذا الموضوع، نجده متكرّراً منذ أعوام عند كلّ أزمة حقيقية في استيراد الغذاء، أو حتى عند كلّ تدهور في دخول المصريين، بسبب السياسات الكلّية المسمّاة بسياسات الإصلاح الهيكلي التي تروّج الحكومة أنها تصبّ في مصلحة المواطن، وهو التعبير الذي اكتسب معاني أخرى في الأعوام اللاحقة على قرض صندوق النقد الدولي في عام 2016، حيث ترتبط هذه السياسات بمزيدٍ من تدهور قيمة العملة، جرّاء اشتراط تحريرها تحريراً كاملاً أو جزئياً من المؤسسات المالية الدولية، باعتباره السبيل لتدفق الاستثمارات، والتي لم تأتِ إطلاقا بالمقدار الذي يتوافق مع توقعات المشترطين، لكنّها تسبّبت، في المقابل، في تآكل الأجور الحقيقية للمصريين، وانهيار قدرتهم الشرائية وتحول شريحة واسعة منهم إلى فقراء دخل.
ليس خطاب فوائد أرجل الدجاج جديداً، بل هو مع الأسف شائع في الأسواق الشعبية. وهناك عشرات المقالات عن سوء التغذية في مصر وضرورة إصلاح النظام الغذائي، وعن المصريين الواقعين تحت خط الجوع المسمى الفقر المدقع، وقد كانوا أكثر من خمسة ملايين وفقاً لخطوط فقر عام 2019 وإحصاءاته. المضحك المبكي أنّ الحكومة بسياساتها تشبه تماماً رواية يوتوبيا للراحل أحمد خالد توفيق في عام 2008، حيث تبني الطبقة الحاكمة عاصمتها الجديدة المسوّرة تاركة الناس خارجها يحلمون بوجبةٍ من أرجل الدجاج، في ظل أزمة عملة حادّة تجاوز فيها الدولار في السوق السوداء حاجز الثلاثين جنيهاً، رغم أنه لم يعوّم كلياً.

 أصبحت الحكومة المصرية تروّج حالياً فوائد أرجل الدجاج، وكأنّها تشرح للناس أهمية أن تكون فقيراً

لم تكتفِ الحكومة المصرية وإعلامها بذلك، بل أصبحت تروّج حالياً فوائد أرجل الدجاج، وكأنها تشرح للناس أهمية أن تكون فقيرا، فهذه وجبة ترتبط بالفقر المدقع وعدم القدرة على شراء أي من أجزاء الدجاجة الأخرى، والتي أصبحت مثل الحجّ لمن استطاع إليه سبيلا. المصيبة أن هذا الترويج يأتي من معاهد قومية، مثل المعهد القومي للتغذية، وغيره من المؤسسات البحثية. قديما كانت كلمة قومية تضاف إلى أي مشروع أو كلمة قبلها لتعطي إحساسا بالأهمية، أما اليوم فأصبح افتتاح كوبري (جسر) أو طريق أو حتى حمّام عمومي مشروعاً قومياً، حتى أصبحت الكلمة ممجوجة.
لا تخفى على الحكومة ولا الرئاسة أبعاد أزمة الغذاء في مصر، والتي أصبحت تستورد كلّ المواد الأساسية من زيوت وقمح وأعلاف ولحوم من الخارج، بنسبٍ قد لا تضاهيها فيها دولة بحجمها وتاريخها. ومنذ أشهر كان إعدام الكتاكيت لعدم توفر الأعلاف حديثاً في الإعلامين، المحلي والدولي، ولم تحلّ المشكلة بعد.
تساءل الرئيس عبد الفتاح السيسي، أخيراً في مؤتمر محلي: لماذا لا يربي المزارعون أبقاراً حلوباً من نوعيات أفضل تعطي أكثر من خمسة وثلاثين لتراً من الحليب يومياً، بدلاً من تلك النوعيات المحلية التي لا تعطي أكثر من خمسة لترات؟ لم يجرؤ أحد من الحاضرين على أن يواجهه بحقيقة الزيادات الفاحشة في أسعار الأعلاف، جرّاء السياسات الحكومية المتعلقة بوقف الاستيراد، حفاظاً على سعر العملة أو السياسات الزراعية التي لا تدعم الزراعات والصناعات المتعلقة بالأعلاف. ولم يحدثه أحد عما جرى في الموازنة من خفض كبير لدعم المزارعين عبر السنوات الأخيرة، وصولاً إلى أرقام غاية في الهزل، يستحي المرء أن يذكرها، ونحن في وسط أزمة غذائية عالمية ممتدّة منذ عقد، فضحت أبعادها الحرب الروسية الأوكرانية.

ليست الأزمة عند الحكومة وحدها، بل عند طبقة حاكمة شديدة الاستفزاز

لطالما كانت المسائل المتعلّقة بغذاء المصريين وقوتهم حاضرةً في كلّ حراك احتجاجي، فقد كان العيش أو الخبز محوراً رئيسيا في حراك المصريين، منذ أغاني الشيخ إمام وأهازيجه مرورا باحتجاجات الخبز في السبعينيات، وترسّخ هذا المعنى في ثورة يناير 2011، عندما هتف المتظاهرون "عيش – حرية - عدالة اجتماعية"، أو عندما قالوا في وصف الطبقية "هم بياكلوا كباب وفراخ واحنا الفول دوخنا وداخ". والمشكل هنا أن الحكومة نفسها التي تضع أمامنا إعلانات مشاريعها العملاقة في العاصمة الإدارية، وتحدّث الشباب الفقير عن أهمية حجز وحدته في العاصمة الإدارية أو العلمين الجديدة أو أيٍّ من المدن المسوّرة بأرقام خيالية مسبوقة بستة أصفار، هي نفسها الحكومة التي تطالب المصريين اليوم بالصبر على أكل أرجل الدجاج.
ليست الأزمة عند الحكومة وحدها، بل عند طبقة حاكمة شديدة الاستفزاز، يعاير أبناؤها الطفيليون، ومن يظنون أنفسهم أبناءها، بقية الطبقات بما تيسّر لهم من مظاهر العيش الفاره، وبشكل شديد الاستفزاز عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فتظهر أمامنا فيديوهات أولئك المتفاخرين بطفيليتهم وبأطقم خروجهم المسمّاة "الأوت فيت" بأرقام أعلى من ضعف الحد الأدنى للأجور، وهي أطقم رديئة، وأسعارها متدنية إذا ما أراد أصحابها أن ينتموا لطبقة أعلى أصلاً، لكنها صناعة التفاخر والتمايز الطبقي التي أدمنها هؤلاء الطفيليون، ومعهم الحكومات العاملة من أجلهم.

المصريون مستاؤون مما وصلت إليه الأوضاع المعيشية أخيرا، وتحمّلوا ما لا يطيقونه

في البلدان التي تحترم ذاتها وشعوبها، ترتبط الزيادات في الأسعار والتضخّم بزيادات مماثلة في الأجور، بحيث تصبح الحدود الدنيا للأجور كافيةً للعيش الآدمي فوق خطوط الفقر الوطنية والدولية، وترتبط زيادتها بمعدّلات التضخّم بحيث لا تتآكل الأجور الحقيقية للمواطنين. يحدث هذا حتى في دول نيوليبرالية شبيهة، بل إن دولا تجعل سياسات المعونات الاجتماعية والضمان الاجتماعي تضمن أن يكون الحاصلون على هذه المعونات فوق خطوط الفقر العالمية المرتبطة بشريحة الدخل التي تنتمي إليها الدولة، وفق مؤشرات البنك الدولي نفسه. وليس الحديث هنا عن دول شيوعية أو اشتراكية، أو حتى يحكمها اليسار، بل ببلدان مثل تركيا وجنوب أفريقيا وبعض بلدان آسيا كثيفة السكان.
تحمّل المصريون في السنوات العشر الماضية ما لم يتحمّله شعب آخر من التضخم والإفقار والإذلال والفشل السياسي وتقييد الحقوق والحريات، لكنهم مستاؤون مما وصلت إليه الأوضاع المعيشية أخيرا، وتحمّلوا ما لا يطيقونه، واتّبعوا كل وسائل التكيّف الممكنة وغير الممكنة للتأقلم، لكنها تبدو غير كافية لمواجهة جنون السياسات الكلية، وتضجّ وسائل التواصل وتعليقات المصريين على الصحف والقنوات بهذا الاستياء، سواء بالسخرية أو بالشكوى الحقيقية من مرير العيش. وعلى الحكومة أن تبحث عن حلول حقيقية توفر للمصريين غذاءهم الذي يستحقونه، بدلاً من أن تحدّثهم عن فوائد أرجل الدجاج، أو عدم وجود أضرار صحية في أكل لحوم الحمير.

عمر سمير
عمر سمير
عمر سمير
كاتب وباحث مصري
عمر سمير