عندما لا يملك عباس خيارات بديلة

07 أكتوبر 2021

محمود عباس يلقي خطابه عن بعد أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (24/9/2021/Getty)

+ الخط -

قال رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل أيام، إن أمام إسرائيل عاماً واحداً لتنسحب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وإلا فإنه سيعود إلى قرار مجلس الأمن رقم 181 (قرار التقسيم)، وسيلجأ إلى محكمة العدل الدولية للحسم في شرعية وجود الاحتلال الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية والمسؤوليات المترتبة على الأمم المتحدة والمجتمع الدولي إزاء ذلك. وقد بدا هذا التهديد كلاميا بحتا مكرّرا، ومن دون أنياب حقيقية وخيارات بديلة متماسكة وجدّية، والأهم ربما أنه جاء في سياق إنشائي واستجدائي، طبع عادة خطاب رئيس السلطة في الأمم المتحدة.

حسب عبّاس، يفترض أن تشهد المهلة الزمنية المحدّدة مفاوضات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، لترسيم الحدود برعاية اللجنة الرباعية وفق قرارات الشرعية الدولية وخيار حلّ الدولتين، علماً أن اللجنة ميتة سريرياً منذ سنوات، وتتلقّى كما السلطة، منذ انتخاب الرئيس جو بايدن، محاولات إنعاش وتنفس صناعي أميركية، ولا يقل عن ذلك أهمية أن القضية الفلسطينية غابت تقريباً عن جدول أعمال اجتماعات الجمعية العامة لصالح قضايا وملفات أخرى. وعلى الرغم من دعم بايدن حلّ الدولتين نظرياً، إلا أنه اعتبره بعيداً جداً، بينما ذهب سفيره المعين لدى تل أبيب، توماس نيدز، أبعد من ذلك، بوصفه بالمستحيل، ولو على المدى المنظور.

على الرغم من دعم الرئيس الأميركي جو بايدن حلّ الدولتين نظرياً، إلا أنه اعتبره بعيداً جداً

ضمن الخيارات البديلة، هدد الرئيس عباس بالعودة إلى قرار مجلس الأمن رقم 181 قرار التقسيم الذي يعطي الفلسطينيين 44% من مساحة فلسطين التاريخية، أي ضعفي المساحة التي قبلت بها السلطة، والبالغة 22%، وتضم الأراضي التي احتلتها إسرائيل إثر حرب يونيو/ حزيران 1967. وهنا تجب الإشارة إلى أن إعلان الدولة الفلسطينية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1988 في الجزائر استند أصلاً إلى قرار التقسيم رقم 181، ولكن وفق حدود يونيو/ حزيران 1967، في ما بدا تناقضا غريبا أظهر التخبّط والعشوائية في تبنّي الخيارات السياسية، مع العلم أن الواقع في تلك الفترة كان مؤاتيا أكثر لحل الدولة الديمقراطية الواحدة الذي تبنّته الثورة الفلسطينية المعاصرة منذ انطلاقتها منتصف القرن الماضي، وتخلت عنه مع إعلان الدولة الفلسطينية ضمن حدود يونيو/ حزيران، وعلى 22% من مساحة فلسطين التاريخية.

أما تهديد عبّاس بالذهاب إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، لاتخاذ قرار بشأن شرعية وجود الاحتلال الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، فينسف التهديد من أساسه. ويفضح، من جهة أخرى، حقيقة عدم امتلاكه رؤية متماسكة صلبة، وحتى عدم جدّية التهديد نفسه، وإذا كان الرئيس لا يدري فتلك مصيبة، وإذا كان يدري وتجاهل فالمصيبة أعظم، إذ كانت المحكمة الدولية قد أفتت فعلاً بعدم شرعية وجود الاحتلال على الأراضي الفلسطينية المحتلة، عندما نظرت في قضية الجدار الفاصل (العنصري) الذي بنته إسرائيل على تلك الأراضي، الفتوى التي لم تستخدمها السلطة، كما ينبغي بل تجاوزتها عملياً وأفرغتها من مضمونها، عندما قبلت بفكرة تبادل الأراضي مع إسرائيل، وبالتالي قبول ضمّها مساحات واسعة من الأراضي المحتلة عام 1967.

يبدو أن صبر السلطة الفلسطينية بلا حدود تجاه الاحتلال والوقائع التي يحاول فرضها على الأرض

وتحدث رئيس السلطة الفلسطينية كذلك عن تهرّب الحكومتين الإسرائيليتين، الحالية والسابقة، من الحلّ السياسي، خيار الدولتين، عبر طرح مشاريع اقتصادية وأمنية بديلة واهية، ومخطّطات أحادية لن تحقق الأمن والاستقرار، بل تعيق جهود السلام الحقيقي، وتطيل أمد الاحتلال وتكرّس واقع الدولة الواحدة العنصرية، حسب تعبيره الحرفي... التشخيص صحيح، لكن الكارثة أن عباس تساوق فعلاً مع تلك المخططات، بما فيها لقاؤه الشهير "غير السياسي" مع وزير الدفاع الإسرائيلي، الجنرال بيني غانتس، الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) لمواصلة التنسيق الأمني والمالي، سعياً إلى ضمان بقاء السلطة نفسها ولو من دون سلطة، مع استعمار بلا تكلفة، كما كانت تقول دائماً، وكما قال القيادي الأسير، مروان البرغوثي، في تصريحات له الأسبوع الماضي.

وكان عباس قد اعتبر، وعن حقّ، أن سياسات المجتمع الدولي وهيئات الأمم المتحدة تجاه القضية الفلسطينية قد فشلت جميعها، ولم تتمكن من مساءلة إسرائيل ومحاسبتها، وفرض عقوبات عليها بسبب انتهاكاتها القانون الدولي واستمرارها في التصرّف كأنها دولة فوق القانون، لكن هذه الهيئات هي نفسها التي يطالبها الرئيس عبّاس، الآن، بالتدخل، على الرغم من أن لا شيء يجبرها على تغيير موقفها والانخراط الجدّي في القضية، بينما تدخلت فعلاً في أثناء هبّة القدس ومعركة سيفها التي كسرت أو ضعضعت الوضع الراهن الذي قبل به عبّاس ولا يمانعه، بل يتشبث به المجتمع الدولي المستنزف والمرهق في جبهاتٍ وملفاتٍ أخرى.

خاطب عباس كذلك قادة إسرائيل، قائلاً: "لا تقهروا الشعب الفلسطيني، وتضعوه في الزاوية وتحرموه من كرامته وحقه في أراضيه ودولته، لأنكم بذلك ستدمّرون كل شيء، ولصبرنا وصبر شعبنا حدود". والحقيقة أن الشعب فقط يواجه الممارسات الإسرائيلية بكل الوسائل المتاحة، ولم يستسلم أو يخضع أمامها عبر هبّات وموجات مقاومة متتالية. أما السلطة فيبدو صبرها بلا حدود تجاه الاحتلال والوقائع التي يحاول فرضها على الأرض.

نحن أمام تعبير عن ضعف الرئيس عباس، وافتقاده القدرات والمؤهلات اللازمة لقيادة الشعب الفلسطيني

في سياق الانفصام وترديد الكلام الإنشائي، تحدث رئيس السلطة عن منظمة التحرير وانتخابات الحزمة الانتخابية كاملة (الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني)، طالباً دعم المجتع الدولي مرّة أخرى للضغط على إسرائيل، من أجل إجرائها في القدس، حيث لا يعقل أن نبقى بدون انتخابات، كما قال هذا المجتمع الذي أقرّ عباس قبل ذلك بفشله في الضغط على إسرائيل وإجبارها على الانصياع للشرعية الدولية، علماً أنه بذلك يعطيها الفيتو على الانتخابات والخيارات الفلسطينية بشكل عام، بدلاً من النضال والقتال لإنجازها في ضوء المعركة اليومية والمستمرّة التي يخوضها المقدسيون، دفاعاً عن المدينة وهويتها الفلسطينية.

في ختام الخطاب، تحدّث محمود عباس عن التزام السلطة بالعمل السياسي والحوار طريقاً لتحقيق السلام وتكريس المقاومة الشعبية والسلمية، ومكافحة الإرهاب بكل أشكاله ومصادره في منطقتنا والعالم. والتزام السلطة بالمقاومة الشعبية نظري وإنشائي فقط، سماها عباس نفسه ذات مرّة مقاومة محمود العالول، وهي أي السلطة عملياً تخلت وما زالت عن الناس في الميدان، كما نرى الآن في بيتا، وكما رأينا أثناء هبّة القدس وما تلاها. أما الإرهاب الحقيقي فهو ما مارسته إسرائيل، عقودا طويلة، ولا تزال ضد الشعب الفلسطيني، ولا جدوى من محاربته إقليمياً، ما لم يتم القضاء على جذره في فلسطين، كون مشكلات المنطقة مرتبطة مباشرة بالاستعمار الإسرائيلي الذي استغلته الأنظمة الاستبدادية ذريعة لقهر الشعوب وإذلالها، بحجّة تحرير فلسطين.

عموماً، وفي كل الأحوال، نحن أمام تعبير عن ضعف الرئيس عباس، وافتقاده القدرات والمؤهلات اللازمة لقيادة الشعب الفلسطيني، كما عدم امتلاكه خيارات جديدة وجدّية بديلة للواقع الراهن (سلطة من دون سلطة واستعمار بلا تكلفة) الذي قبل به عملياً، علماً أنه يمثل مصلحة لإسرائيل والمجتمع الدولي المنافق الداعم لها، والعاجز أمامها.