على حافّة "الخبز الحافي"
أكتب هذا المقال وأنا في القطار المتّجه إلى طنجة انطلاقاً من الرباط. قطار حديث سريع جداً، يسير بسرعة ثلاثمائة كيلو متر في الساعة، ويُطلَق عليه في المغرب "البراق" (!). تفاءلت بالتسمية الجميلة، التي لا بدّ أنّها تستند إلى إرث لغوي وديني وتاريخي، طبع المغرب بطابعه العريق، رغم مظاهر الحداثة التي تتوشّح بها البلاد في كلّ مكان، ما جعل سحرها يتبدّى في الروح نثيثاً خفيفاً وخفياً.
أزور المغرب، للمرّة الأولى، بدعوةٍ من وزارة الشباب والثقافة والتواصل، للمساهمة في المعرض الدولي للنشر والكتاب في الرباط، بدورته الـ 29. لكنّها، بإذن الله، لن تكون الأخيرة، فهذه المغرب شرّقت وغرّبت بقلقي الوجودي، قبل أن تودعه في جغرافيا بحريّة ذهبتُ إليها قبيل مغيب الشمس بقليل، لأجدها تتأرجح بامتنان وافر للمياه، ما بين البحر والمُحيط.
هنا إذن، تحديداً، نقطة التقاء البحر الأبيض المتوسّط بالمحيط الأطلسي. قالت ابنة طنجة، الصديقة الكاتبة والإعلامية، عائشة بلحاج، وهي تلتقط لي صورةً في جانب اللوحة التي تشير إلى المكان الساحر تحت وهج الشمس الطاغي: لن تنسى هذه اللحظات أبداً. وأنا أصدّق عائشة، التي رافقتنا منذ وصولنا إلى المدينة بكرم وافر، وعشقٍ عبّرت عنه لمعة عينيها وهي تشرح لنا تفاصيل الأمكنة، التي حرصت على أن نزورها في أوقاتها الاستثنائية دائماً. وهكذا كان لا بدّ من وقتٍ مستقطعٍ لمقهى الحافّة الشهير، بإطلالته الفريدة من نوعها، ويمتدّ عمر الحافّة ذات الطبقات الخمس، الموزّعة على بناء بسيط وأنيق، ما يزيد على مائة عام، وكثير من مثقفي العالم، الذين مرّوا ليحتسوا "الأتاي" المميّز بطعمه وأسلوب تقديمه في كؤوس كبيرة، وليراقبوا أسراب النوارس وهي تعبر في خطٍّ مستقيم، ما بين البحر والمحيط، في رحلة تبادلية ما بين طنجة وأوروبا.
عندما بدأنا بالتقاط الصور، وتوثيق الدقائق الملوّنة بالأبيض والأزرق، المُشبعة برائحة البحر، ومحيط كانت أطياف من مرّوا في تاريخه حاضرةً، لترسم طبيعة هذا المقهى صورةً مصغّرةً من طنجة، في ماضيها العالمي المتّسع لكلّ الثقافات واللغات والوجوه، حيث ذهب كُثرٌ، وبقيت وحدَها غير آبهة للتحوّلات.
سمعت قصيدة "الحافّة"، التي كانت رفيقتي في الرحلة الشاعرة السورية، المُبدعة ريم السيد، قد كتبتها بعد زيارتها السابقة المقهى، فانكشف قليلٌ من السرّ البهيّ: "منذ عرفتك وأنا أمارس طقوس الحافّة من تهاون وتسامٍ وانحدار". رأينا ذلك ونحن نجول بين أروقة السوق العتيقة، بتذكاراتها المميّزة، وبضائعها، ومنمنماتها المدهشة، وبائعيها الذين لا يتقنون كلّ اللغات التي مرّ أصحابها من هنا وحسب، كما بدا لي، بل أيضاً، بسيّاحها الذاهبين في احتمالاتهم إلى طنجة في أبعد حدود التفكير. ومن تلك الاحتمالات ما ينفتح واسعاً على باب البحر المكتنز بمعالمه التاريخية المتنوّعة، درجاتِ سلّمٍ لا ينتهي، ولا يصل إلى نهايته أحد. وبالطبع، لا بدّ لخبز محمد شكري الحافي من حضورٍ، بقي بعضُه مُجسّداً في مقهى قاتم يحمل اسم الرواية الشهيرة، محرّفاً بالفرنسية، في مفارقةٍ لا تخفى على قارئ الرواية الإشكالية، بسيرة كاتبها العارية (كتب شكري رواية "الخبز الحافي" في 1972 وترجمها إلى الفرنسية الطاهر بنجلون في 1981، ولم تنشر بالعربية قبل سنة 1982).
قبل أن أغادر المدينة، هاتفتُ صديقة أخرى من طنجة، الشاعرة إكرام عبدي، ليجتاحني عتبُها الحنون، بسبب قصر مدّة الزيارة، وهي التي رافقتني بمشاعرها طوال المسافات التي قطعتها منذ وصولي من الكويت، لكنّ هذا لم يمنعها من الاهتمام بأدقّ التفاصيل. لا أعرف إن كنتُ قد حظيت بصداقاتٍ أخرى، بالإضافة إلى إكرام وعائشة، من طنجة، ولكنّني أعرف أنّني لن أنسَى طنجة، ومن قابلتُ من أهلها الطيبين.
عندما قفلت راجعة من طريق الغابة المحاذية للبحر إلى محطّة القطار باتجاه الرباط، كانت طنجة قد حجزت مكانها الأثير في وجداني مدينةً عريقةً لا تريد التخلّي عن أناقتها البادية، برّاً وبحراً وسماءً وناساً، ولا تريد أن تتجاهل ما حدث حولها من تغيّرات سريعة، كما "البراق" في صورته بالمخيّلة البشرية الإسلامية. وستبقى طنجة في روحي خبزاً حافياً على حافة العالم كلّه.