عار "النخبوية" .. ملامح من مصر بعد ثورة يناير

عار "النخبوية" .. ملامح من مصر بعد ثورة يناير

24 فبراير 2021

(معمّر مكي)

+ الخط -

أطلقت الذكرى السنوية العاشرة لثورة يناير المصرية، مع شقيقاتها العربيات، فيضا من الكتابات في صفحات التواصل الاجتماعي، أو حتى في الصحافتين، الإلكترونية والمطبوعة. ولعل المتابع المهتم من موقع الانتماء لهذه الثورات والانتفاضات، والتمسك بالإخلاص لأهدافها من أجل التغيير، يلاحظ غلبة اتجاهين في هذا السياق: الأول لا يتجاوز التمجيد والاحتفاء بالذكرى، وتأكيد شرعيتها، ذودا عن هذا "الخروج الجماهيري الكبير"، وفي مواجهة حملات إنكار وتشويه عاتية. وهو على أي حال لا بأس به، بل ومطلوب بشدة. والاتجاه الثاني، وأظنه الأهم والأجدى، سعى إلى تقديم خطاب نقدي كاشف للأخطاء التي أدّت بالانتفاضات والثورات إلى التعثر والفشل، وإن بدت ندرة "نقد الذات" بين أولئك المشدودين إلى كيانات تنظيمية، ومنها جماعة الإخوان المسلمين.

ولا تعميم هنا بشأن "الإخوان" أو "الإسلاميين" جميعهم، ولا تخصيص لهم من دون تنظيمات اليساريين والليبراليين والقوميين أيضا. وقد كتبت محتفيا مقدّرا، مبكرا في ربيع 2011، وأنا اليساري المستقل، تحت عنوان "مؤتمر شباب الإخوان: إصلاحيون ضد السمع والطاعة"، فلم يمر المقال للنشر في صحيفة الأهرام اليومية باللغة العربية، ووجد طريقه إلى موقع "الأهرام أونلاين" بالإنجليزية في 7 إبريل/ نيسان 2011. وربما "كي تعم الفائدة" عند الأجانب، ومن يطالع بغير لغة الضاد!. لكنني متمنيا انتشار عدوى النقد والتمرّد على قدسية الزعامة والقيادة والتنظيم، كنت قد نشرت المقال بالعربية في موقع "البديل" الإلكتروني اليساري، في 27 مارس/ آذار 2011. وللأسف، اختفى مع مواقع عديدة ملاحقة ومحجوبة في مصر اليوم. وعلي أي حال، تلفت النظر، مع تمام العشرية الأولى للثورات والانتفاضات العربية، كتاباتٌ لشباب تحاول استخلاص الدروس من أجل المستقبل، بنقد تنظيماتها وتياراتها. وأظن أيضا، قدر متابعتي، أن لأصحاب الخلفيات الإخوانية والإسلامية نصيبا لافتا منها.

وما زالت الانتقادات الشائعة لثورة يناير المصرية تأخذ عليها غيبة الزعامة الكاريزمية والقيادة الجامعة المؤتلفة والتنظيم الواحد الموحد، ما أدى إلى تفريق القوى التي قامت بالتعبئة من أجل التغيير، بعد تنحّي حسني مبارك سريعا وتنازعها من دون القضاء على نظامه. وثمّة هنا إحالات ومقارنات مع الثورة الاشتراكية الروسية، وغيرها عالميا.

ومن دون تبخيس حق مثقفين وساسة معارضين لنظام مبارك عديدين وفضلهم، على مدى سنوات سبقت 25 يناير/ كانون الثاني 2011، يمكن القول إن "البطولة الأولى" في ملحمة إطاحة الطاغية، وفي الدفع نحو مكتسبات ثورية جزئية لاحقة، مثل تقديم مبارك للمحاكمة في 8 أغسطس/ آب 2011، ولو اتضحت لاحقا صوريتها وهزليتها ودفع المجلس العسكري إلى إجراء انتخابات رئاسية في مايو/ أيار ويونيو/ حزيران 2012، كانت منعقدة لمن سماهم التراث الغنائي لهذه الثورة "فلان الفلاني". أي بالأساس للمواطن الثائر غير المتحزّب أو المسيس أو "المؤدلج". هؤلاء المواطنون/ الجماهير الذين جاءوا إلى ميدان التحرير وكل ميادين الثورة وشوارعها يحملون معاناتهم وغضبهم وأشواقهم لمصر جديدة. هؤلاء، بمن فيهم أبناء الأحياء الشعبية والمهمشون والصبية والشباب العاملون خارج الاقتصاد الرسمي، هم الذين تقدّموا الصفوف في المواجهات مع آلة القمع، وجاؤوا بدون حسابات التنظيم والقيادة والزعيم مع السلطة، ومن أجل الذات. بل وكانوا بمثابة "طليعة شعبية غير منظمة سياسيا"، تتجاوز مطالب الساسة والنخب والتنظيمات. وقدّموا العدد الأكبر والأهم بين شهداء الثورة وجرحاها بطول عام 2011، من شارع محمد محمود، 29 و30 يناير، و"موقعة الجمل" 2 ـ 5 فبراير/ شباط، ثم مجزرة "ماسبيرو" 9 أكتوبر/ تشرين الأول، إلى مجزرتين لاحقتين في "محمد محمود" 19 ـ 25 نوفمبر/ تشرين الثاني، و"مجلس الوزراء" 16 ـ 20 ديسمبر/ كانون الأول. ولو أننا تأملنا قوائم الشهداء في كل منها لاتضحت ندرة المنتسبين لأي تنظيمات على اختلاف تياراتها، أو تلك الوجوه المعروفة بمشاهد حركات الاحتجاج السابقة على الثورة منذ عام 2004، مثل "كفاية" (الحركة المصرية من أجل التغيير) وغيرها.

ما زالت الانتقادات الشائعة لثورة يناير المصرية تأخذ عليها غيبة الزعامة الكاريزمية والقيادة الجامعة

الأرجح أن الثوار المجهولين بصفة "فلان الفلاني" ظلوا خارج اهتمام التنظيمات السياسية المختلفة والإعلام التقليدي. وهنا يحق التساؤل: لماذا لم يجرِ فتح الطريق أمام ظهور قيادات من بينهم تستكمل المسار الثوري؟ وإلى أي حد سعت التنظيمات السياسية، المعنية بمستقبل الثورة، إلى التفاعل معهم، والاستفادة من طاقتهم وثوريتهم، وضمهم إليها لتطوير هياكلها وأساليب عملها وأفكارها وخطابها؟ وهذا الإخفاق يصم أيضا، وبالأساس تنظيمات سياسية، تقول إنها تتجاوز "إصلاحية" الإخوان المسلمين. فبعد ثورة يناير وبفضلها، ومن وعاء شرعيتها، ظهرت أحزاب يسارية وليبرالية عديدة وما بينهما، فهل عمل أي منها بالفعل على بناء تنظيم بين الجماهير في المدن والقرى وبين جماهير " فلان الفلاني"؟ لا أظن.

في أعقاب انقلاب 3 يوليو في 2013، اكتشفت عبر حوارات ونقاشات تلقائية بلا حصر مع مثقفين يساريين وليبراليين وقوميين (لا أعمم هنا أيضا) المفعول الخطر والمأساوي "للنخبوية". لاحظت كيف تحولت مرارات النتائج الضعيفة لأحزابهم وقوائمهم في الاستحقاقات الانتخابية في 2011 و2012، ومقارنة بالإخوان والسلفيين، إلى سخط وكراهية للطبقات الشعبية، والتي طالما تحدثوا عن معاناتها، وقالوا بتمثيلها والانحياز لها. وكأنها "عقدة نفسية سوسيولوجية" تولّد نزعة انتقام وتشفّ في هذه الجماهير "الجاهلة المضللة بالخطاب الديني وبالمعونات الخيرية مع شبهات الرشاوى الانتخابية". لم تنظر هذه النخب إلى أهمية هامش الحريات تنظيما وتعبيرا وتحرّكا في الفضاءات العامة الذي انفتح نسبيا، وعلى نحو غير مسبوق منذ 1954. ولم تسائل نفسها: لماذا لم تتحرّك من مقارها وشرانقها لتتفاعل مع الناس، وتنشط بينها، وتستقطب من بينهم كوادر وقادة لبناء تنظيمات غير نخبوية، وكي تطوّر أدواتها وهياكلها وخطابها هي أيضا؟ وأظن أننا إلى اليوم لم نستمع إلى مراجعة لافتة بين هذه النخب، أسيرة نخبويتها، بشأن غياب عمل جدّي بين الجماهير. وأيضا الافتقاد إلى الصبر عليها، كي تتطور وتتحرّر من عقود التجهيل والتعليم الرديء والإفقار والخوف من القمع وتجريم العمل السياسي وتحريمه.

أمراض "النخبوية" لم يسلم منها الإسلاميون بدورهم، بما في ذلك قيادة تنظيم الإخوان

ببساطة، يبدو أن نخبا كهذه سقطت أسرى اعتياد "الغرف المغلقة" وثقافة الشللية والعصبوية والشعور بالتميز والاصطفاء. ولم تدرك (ولعلها للأسف ما زالت) أن واجبها أن تعمل مع الناس، وتصبر عليهم لتكسبهم إلى جانبها، كي تحررهم من ميراث طويل أعاق تشكل وعي فكري سياسي حديث بين ضحايا أنظمة الاستبداد والفساد التي حكمت بعنوان "الدولة الوطنية"، وأيضا المتاجرة بالدين في حقل السياسة.

في التجربة المصرية بعد 2011، سرعان ما قادت "النخبوية" إلى صعود "شعبوية" الجنرال/ القائد المنقذ وتمكّنها، وكي تعيد إنتاج صيغة الحاكم الفرد مطلق السلطات والصلاحيات، وتغلق مساحات الحريات النسبية المكتسبة بعد الثورة. وهذه جناية تغليب النزعات الشخصية الزعاماتية، وتضخم الذات والفئوية الشللية وغياب الديمقراطية الداخلية في التنظيمات وروح العمل الجماعي، والتعالي على الناس، وعدم تقبل الآخر المختلف، واستسهال الحلول الإقصائية والاستئصالية لإدارة الصراعات السياسية والفكرية وحسمها. ناهيك عن عدم تفهم أن المواطنين/ الجماهير، في الأغلب، هم ضحايا ظلم مزدوج: سلطوية الدولة الوطنية وفسادها وتجهيلها للمواطنين، وتخلف تنظيمات إسلامية وقصورها وإصلاحيتها حد الانتهازية، أو تطرفها حد الظلامية "القروسطية".

اختبرت الثورات والانتفاضات العربية "النخب" على تنوعها واختلافها، فرسبت هذه في الامتحان، أو رسب معظمها

والواقع أن أمراض "النخبوية" لم يسلم منها الإسلاميون بدورهم، بما في ذلك قيادة تنظيم الإخوان. وليس صحيحا أنهم بلا "نخب"، وأن هذا المفهوم يخص غير الإسلاميين وحدهم، فلكل جماعة نخبتها. ولكن المشكلة والداء يظلان في تلك "النخبوية" المريضة المنغلقة المفارقة لهموم الواقع المعيش وللناس، والتي تنظر إليهم وتتمناهم كجموع من ذرّات بشر منقادة غير ناقدة، وبلا حق لها في الاختيار. وكأنها مطالبة بالبقاء مسحورة بجاذبية "التنويم المغناطيسي" للزعيم القائد (رئيسا أو أمينا عاما أو مرشدا) أو للتنظيم الصنم منزوع الديمقراطية.

يحيل مدخل "ن خ ب"، في معاجم اللغة العربية، إلى معاني "المختار بعناية" و"الأخذ من الشيء أحسنه وأفضله". كما استخدم العرب الأولون في أشعارهم "النخبة" و"النخب" للإشارة إلى سادة القوم وكبارهم وشيوخ القبيلة المتسمين بالثراء والمعرفة وعلو النسب وبنظم الشعر. لكن المعاجم ذاتها تقول إن "نخبته الحرب أي أضعفته وأنهكته". وقد يصحّ القول إن الثورات والانتفاضات العربية، أخيرا، اختبرت "النخب" على تنوعها واختلافها، فرسبت هذه في الإمتحان، أو رسب معظمها، وأهدرت فرصة تاريخية لتحرير مواطنيها، إلا من رحم ربي. .. وهذا هو عار "النخبوية".