أجراس الاحتجاج الاجتماعي في تونس
تصل إلى بريدي الإلكتروني رسائل عديدة من تونس عن الاحتجاجات الاجتماعية. علمت منها، على سبيل المثال، باعتصام عمّال مؤقتين في جهاز الدولة (يطلق عليهم هناك عمّال الحضائر) على الحدود مع الجزائر عند معبر بوشبكة في ولاية القصرين هذا الشتاء. ويمكنك أن تتخيّل اعتصاما في هذا الطقس شديد البرودة في مكان على هذا النحو، ودرجة الحرارة تهبط إلى ما دون الصفر.
وأخيرا، أصدر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تقريره السنوي عن العام 2021، فأطلق أجراسا تحذّر من تحولات على صعيد الاحتجاجات الاجتماعية في البلاد، تضاف إلى أزمتها السياسية وتعثر الانتقال إلى الديمقراطية بعد ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول 2010/ 14 يناير/كانون الثاني 2011. وظلت المشكلة قبل 25 يوليو/ تموز2021 كما هي بعده: أي عدم معالجة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بما تستحق من الاهتمام الكافي. والمنتدى هو مؤسسة المجتمع المدني الأهم والأكثر تخصصا في هذا المجال. ويصدر تقاريره الشهرية والسنوية عن الاحتجاجات الاجتماعية منذ تنظيمه، في عام 2015، الحدث الكبير "المنتدى الاجتماعي العالمي بتونس"، ومعها تقارير أخرى دورية عن الانتحار والهجرة غير الشرعية. وفي مصر، توقف مثل هذا الرصد وهذه التقارير بعد سنوات معدودة من انقلاب 3 يوليو (2013)، بحكم تفشّى القمع في مختلف المجالات، وضرب المجتمع المدني وتنظيماته، وهو قمعٌ طاول الجميع، بمن فيهم أهل اليسار المهتمين بالاحتجاجات الاجتماعية، وليس الإسلاميين وحسب. وفي الأصل، يتميز الاحتجاج الاجتماعي في تونس عن نظيره في مصر بما لمستُه من استمرار التمسّك بثقافة حق المواطن على الدولة أن توفر له العمل، ناهيك عن تنظيم العاطلين أنفسهم في نقابات وجمعيات وأطر أخرى تقود نضالاتهم.
أعلى عدد للاحتجاجات الاجتماعية على مدى السنوات السبع، اعتبارا من 2015، فقد تجاوزت 12 ألفا في 2021
تدقّ معطيات التقرير الجديد للمنتدى التونسي أكثر من جرس إنذار من واقع الحال، ولما هو قادم، فهو أولا يسجّل أعلى عدد للاحتجاجات الاجتماعية على مدى السنوات السبع، اعتبارا من 2015، فقد تجاوزت 12 ألفا في 2021، بعدما كانت 8759 احتجاجا في عامي 2020 و9091 في عام 2019 و9356 في 2018. واللافت أيضا ارتفاع ما يطلق عليها المنتدى "الاحتجاجات العشوائية"، ويعرّفها بأنها تنطوي على أعمال عنف، لتبلغ حصتها 82% من إجمالي الاحتجاجات الاجتماعية لعام 2021. وهنا علينا أن نقارن بما كان في عام 2020، فقد كانت نسبة هذه الاحتجاجات الاجتماعية العنيفة نحو 65%. وهو ما يعكس نفاد صبر التونسيين من تأخر تحقيق أهداف الثورة في الوفاء بحقوق العمل (التشغيل) والتنمية وإعادة توزيع الثروة، ناهيك عن ضعف حظوظ خلقها وطنيا ومحليا.
ولقد بدا أن شعبوية الرئيس قيس سعيّد المدعومة من قوى الثورة المضادّة في الداخل والإقليم قد استثمرت في إخفاقٍ وإحباط كهذين، لتهدّد ما تحقق من حريات وحقوق سياسية بعد الثورة، بما في ذلك اتساع هوامش التنظيم والتظاهر والإعلام، ومعها بناء البرلمان والحياة الحزبية التعدّدية على أسس جديدة عصرية. وهذا كله مفتقد أو يكاد في بقية الدول العربية. وبمتابعة صفحات التواصل الاجتماعي لأصدقاء أعزاء من نشطاء الحركات الاجتماعية في تونس (لطالما التقيتهم سنوات في مختلف أنحاء البلاد التونسية)، لوحظ ترحيب بإجراءات الرئيس سعيّد وتوجهاته بحلول 25 يوليو/ تموز 2021 وفي أعقابه، إلا أن شروخا في هذه الثقة بالرئيس صارت لاحقا على الصفحات ذاتها. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن عهد الحكم شبه المطلق للرئيس التونسي قد شغل نحو نصف عام 2021 ومعطيات المنتدى ذاتها عن شهر ديسمبر/ كانون الأول للعام نفسه (1119 احتجاجا نحو 89% منها عشوائي عنيف)، لأصبح من المفترض القول إن أثر "السياسات الجديدة" في قصر قرطاج الرئاسي محدودٌ في كبح الغضب الاجتماعي، وتأجيل المطالبة بالحق في العمل، حيث زادت البطالة إلى ما يفوق نسبة 18% بعدما كانت عشية الثورة نحو 13%.
من الأرجح أن ينعم حكم قيس سعيّد بهدنة مع الاتحاد التونسي العام الشغل
وقد انتبه مراقبون للشأن التونسي عديدون، على مدى الأسابيع الأخيرة، إلى أسباب مباشرة لتآكل ثقة جمهور "الشعبوية الرئاسية" بين الساخطين اجتماعيا على عشرية ما بعد الثورة لافتقاد العمل والتنمية. ومن هذه الأسباب، تنكّر قيس سعيّد وحكومته صراحة للقانون 34 الذي يُلزم الدولة بتشغيل العاطلين ممن تجاوزت بطالتهم عشر سنوات. وأيضا الارتفاع اللافت في أسعار السلع الأساسية، وما كشفت عنه توجهات الموازنة الجديدة لعام 2022 الممهدة للقبول بشروط إقراض صندوق النقد الدولي، وتأثيراتها المحتملة على نحو أكبر وأخطر وأكثر قسوة على الفقراء والطبقة الوسطى مما كان في ظل الحكومات السابقة.
ولاعتبارات عدة، لا مجال للخوض فيها هنا، من الأرجح أن ينعم حكم قيس سعيّد بهدنة مع الاتحاد التونسي العام الشغل، كبرى النقابات في تونس. وحتى لو استبعدنا أن تشهد البلاد إضرابا عاما بحجم ما رعاه الاتحاد في 17 يناير/ كانون الثاني 2019 بين العاملين في الوظيفة العمومية والقطاع العام، من أجل زيادة الأجور وفي مقاومة لرغبات صندوق النقد، فإن المعطيات السابقة المنسوبة إلى المنتدى التونسي يجب أخذها بجدّية، لأنها جميعها تتعلق بالاحتجاجات خارج دعوات اتحاد الشغل ورعايته.
ومن يتابع موجات الذروة في الاحتجاجات الاجتماعية في تونس بعد الثورة، وتتصدّرها أعوام 2016 و2018 و2021، ومن دون إنكار لأولوية ما هو اقتصادي/ اجتماعي، بإمكانه أن يلاحظ صعوبة ألا يختلط غضبٌ كهذا بمطالب وشعارات وتوظيفات سياسية. وعلى سبيل المثال، حملت موجة يناير 2021 أيضا مطالب بحل البرلمان، مع سخط ضد الأحزاب. وفي يناير 2018، انطلقت الاحتجاجات الاجتماعية بدافع غلاء أسعار سلع أساسية غذائية، بمقتضى توجهات في الموازنة حينها نحو التقشّف ورفع الدعم استجابة للجهات الدولية المقرضة، لكنها لم تكن خالية تماما من دعوات إلى إطاحة الائتلاف الحاكم بقطبيه الرئيسيين، حزب نداء تونس وحركة النهضة، وكذا السخط على تمرير هذا الائتلاف في البرلمان قبلها بنحو ثلاثة أشهر، وفي سبتمبر/ أيلول 2017، قانون المصالحة الإدارية مع فساد عهد بن علي.
يعتمد الرئيس على التحالف مع نخبة بيروقراطية الأمن والجيش والإدارة العليا ضد خصومه السياسيين
أجراس الاحتجاجات الاجتماعية التي ترتفع في تونس قد ترتد مع موجة قادمة ضد شعبوية الرئاسة. والسؤال هنا، وفي غياب حلول اقتصادية اجتماعية عند قيس سعيّد وحكومته، كيف سيكون عليه الحل الأمني، في سياق التضييق على الحريات ومصادرة الفضاء العام، وأيضا الرئاسة في قرطاج التي بات مسكونة بمحاربة "أشباح المؤامرات"؟
في الموجات السابقة، وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة إلى أداء قوات الأمن تجاه الاحتجاجات الاجتماعية، بما فيها العشوائية العنيفة، لم يكن عدد الشهداء من المحتجين في كل موجةٍ منها يتجاوز الشهيد الواحد في الأغلب، فهل يستمر أداء الأمن على هذا النحو مع الرئيس سعيّد؟ أم ستشهد تونس عنفا وقمعا ثقيلا كارثيا تمارسه سلطة الدولة، في ظل ما هو ظاهر جلي من اعتماد الرئيس على التحالف مع نخبة بيروقراطية الأمن والجيش والإدارة العليا ضد خصومه السياسيين، والتأييد له من رموز نظام بن علي، وتحت شعار "استعادة الهيبة للدولة"؟ وإلى أين ستذهب تونس مع استثمار رئيس الدولة في ميول قطاعات من الطبقة الوسطى المحافظة سياسيا نحو "حاكم قوي" ضد "الفوضى"، وتوزيع السلطات ومراقبتها وتعدّد مراكز القرار؟ وأليس الرئيس قيس سعيّد، وحتى قبل "25 يوليو"، هو الذي تمنّى في 6 فبراير/ شباط الجاري، وعقب موجة احتجاجات اجتماعية عرفت قدرا من القمع البوليسي المدان، تمرير البرلمان مشروع قانون يحصّن رجل الأمن في مواجهة المواطن، والمسمّى "قانون زجر الاعتداءات على القوات الحاملة للسلاح" المرفوض من القوى الديمقراطية والمجتمع المدني؟ .. أظنها أسئلة مشروعة.