عاد حمدوك وكأنه لم يعد

24 نوفمبر 2021
+ الخط -

أن يُكتب مقال لإثبات أن عودة عبد الله حمدوك إلى رئاسة الحكومة في السودان، بالشكل الذي عاد فيه، هو بمثابة استسلام لسجّانيه وتحرير شهادة براءة للانقلاب العسكري، فإنما هذا كتفسير الماء بالماء بعد العناء. أليس ذلك بديهياً فعلاً؟ لكن لا بأس ببعض الملل، مع أن الإثارة، لو وُجدت في السياق السوداني الحالي، فإنما تنحصر في تتبُّع تصريحات الرجل وسلوكه في الساعات التي تلت الإفراج عنه. لقد تنقّل رئيس الوزراء العائد في غضون 25 يوماً، من السجن إلى الإقامة الجبرية في منزله، فالقصر الجمهوري، بحسب أجواء المفاوضات التي كانت تجري مع المسؤولين الأميركيين خصوصاً، ممن اختصروا شرط إلغاء مفاعيل الانقلاب بإعادة "الدكتور حمدوك" إلى منصبه، وهو ما حصل. أراد المجتمع الدولي رئيس حكومة مدنياً يعرفه جيداً منذ دراسته وعمله في مؤسسات دولية لتبرير مواصلة فكّ العزلة الدولية عن الخرطوم، ولعلم المسؤولين الأجانب أنّ حُكماً عسكرياً مباشراً من دون واجهة مدنية لن يضمن استقراراً ولو هشّاً في هذا البلد. أصرّ الغرب على ذلك وحصل عليه من خلال عودة مهينة للرجل إلى منصبه باتفاق جديد يعطي عملياً كل السلطة للعسكر بعدما كانت مناصفة بينهم وبين السياسيين المدنيين. احتفظ العسكر إذاً بنسخة تناسبهم من حمدوك، ليرأس حكومة لا سياسيين فيها، ولا تتعاطى السياسة أصلاً، وليكون هو الرجل الذي يُشتَم في الشارع أكثر من غيره، مثلما لاحظت عن حق خلود خير، وهي خبيرة في الشؤون السودانية في مركز "إنسايت ستراتيجي بارتنرز"، في حديث إلى وكالة "فرانس برس".

بالغ حمدوك في الاحتفال بعودته إلى منصب رئيس حكومةٍ لن يكون فيها سياسيون بل تكنوقراط يجيدون الانصياع للجيش وللمليشيات التابعة له. في غضون 24 ساعة، عوّض غيابه الإعلامي القسري منذ اعتقاله في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وأعطى مقابلتين صحافيتين (لقناة الجزيرة ولوكالة رويترز) إضافةً إلى كلمته التي ألقاها في القصر الجمهوري عقب توقيعه اتفاق الاستسلام مثلما يسميه الباحث في مركز "ريفت فالي إنستيتيوت"، مجدي الجيزولي. في التصريحات الثلاثة (المقابلتان وكلمته إثر التوقيع)، مزيج من إنكار للواقع وتصحيح فوري لما أدلى به في المقابلة نفسها. قال الرجل لـ"الجزيرة" إن الاتفاق نصّ على أن تكون لرئيس الوزراء "القدرة على تشكيل حكومة مستقلة بكل حرية واستقلالية"، وما هي إلا لحظات تمرّ قبل أن يستدرك بأن الحكومة ستتألف من وزراء "تكنوقراط"، أي لا حزبيين ولا سياسيين عموماً. بتفسير فوري آخر، القرارات السياسية ستكون ممنوعة عن الحكومة ووزرائها ورئيسها، وستنحصر بمجلس السيادة ورئيسه (عبد الفتاح البرهان) ونائبه (حميدتي ما غيره). وعند مجلس السيادة هذا تبدأ الحكاية وتنتهي. المجلس، وهو السلطة العليا للمرحلة الانتقالية، استبعد منه البرهان بعد انقلاب 25 أكتوبر، أربعة سياسيين مدنيين يمثلون "ائتلاف قوى الحرية والتغيير". ائتلاف كان حمدوك يوماً ما محسوباً عليه من دون أن يكون عضواً فيه، وسرعان ما صار يُنظر إليه من قبل الائتلاف الذي يضم أحزاب وحركات وتنظيمات الثورة السودانية، كأنه "واحد من الآخرين"، أي أحد جماعة العسكر في السلطة أو أكثر من يسايرهم. ومجلس السيادة ذاك، كان يجب أن تنتقل رئاسته إلى سياسي مدني في 17 الشهر الحالي، بموجب اتفاق المداورة (2019)، وهو ما ألغاه انقلاب العسكر الذي حل المجلس السابق وأعاد تسمية أعضاء جدد برئاسة البرهان نفسه ونيابة حميدتي إياه حتى انتخابات يوليو/ تموز 2023 التي يعتقد أصحاب النيات الطيبة أنها ستجري بالفعل.

أعلاه شيء من ملل شواهد إضفاء الشرعية على انقلاب السودان من قبل ضحاياه. أما الانفصال عن الواقع فلا يُسأل عنه إلا حمدوك في قوله: "أوقّع (الصفقة) من أجل حقن دماء السودانيين، وقد عدتُ من أجل الحفاظ على المكاسب الاقتصادية التي تحققت". نعم والله، قال "المكاسب الاقتصادية التي تحققت".