طوفان الأقصى يعيد إحياء أسئلة الربيع العربي
تعيد عملية طوفان الأقصى إلى الواجهة، بالإضافة إلى القضية الفلسطينية، وبالإضافة إلى السؤال الأخلاقي بشأن الصراع بين الإنسانية والتوحّش، أسئلة الربيع العربي بالحيوية والانسيابية ذاتها. فالموقف الرافض تلكؤ أغلبية النظام الرسمي العربي، انطلاقًا من مشاريع التطبيع، وصولًا إلى الدول التي تزعم المقاومة، خير دليل على ذلك. فالأرضية التي تقف عليها مجمل هذه القراءات الناقدة والمستهجنة والرافضة تنطلق من أرضية الربيع العربي ذاتها، لا بل تعبّد الطريق أمام إعادة التفكير بالربيع العربي، وبأسئلته، كونه محاولةً شعبيةً لتغيير هذه الأنظمة، وبالتالي تغيير القرار السياسي فيها.
النقد اللاذع لأغلبية الموقف العربي لا يمكن أن يكتفي بمساءلة الواجهة السياسية فحسب، وإلا وقع في تحليل سطحي لكيفية انبناء المنحى السياسي والحكومي داخل الدول. لذلك، لا بد من العودة إلى البحث في الشروط الكامنة خلف عملية اتخاذ القرار السياسي نفسه، انطلاقًا من البحث فيها وبها، والبحث في شروطها وإمكاناتها، والقبض على شروطها الاجتماعية والاقتصادية التكوينية التي لا تتخطّى مستوى المنطوق والظاهر الرسمي حصرًا، بل تذهب بعيدًا إلى البحث في المعيقات المصلحية والاقتصادية لاتخاذ القرار.
هذه خريطة سريعة لتوزّع مصادر القوى المهيمنة بالتوازي مع عملية طوفان الأقصى، وبالتزامن مع أي مواجهةٍ أخرى، سواء في فلسطين أو أية قضية إنسانية وسياسية أخرى، فهي تعكس تكثيفات هشاشة مقاربة الحدث، ومقاربة الجريمة الحربية بحقّ الإنسانية، وصولًا إلى الإبادة التي يقترفها جيش العدو بحقّ الفلسطينيين وقضيتهم ومجتمعهم.
لا بدّ من العودة إلى البحث في الشروط الكامنة خلف عملية اتخاذ القرار السياسي نفسه، انطلاقًا من البحث فيها وبها، والبحث في شروطها وإمكاناتها
كُتبت مطوّلات ودراسات ومقالات كثيرة خلال مرحلة الربيع العربي، تنطلق من ضرورة تغيير الأنظمة إذا ما أردنا تغيير شروط المواجهة مع العدو الإسرائيلي، كامتداد طبيعي لتغيير شروط عيش المواطن العربي وحياته. كانت هذه المقالات تتصدّر، في أحيانٍ كثيرة، مجمل الجو الثقافي والمشهد الصحافي في عالمنا العربي خلال التفكير في الأبعاد القومية لنتائج الربيع العربي، إلا أنها تزامنت مع مشهد صحافي آخر استمرّ في النظر إلى الموقف، وهو يستمرّ حاليا، على مستوى القشرة السياسية الخارجية، منطلقًا من أن الأنظمة يمكنها أن تتّخذ قرارًا مغايرًا، وأن تصبح في قلب المعركة. ولذلك، يكمن العطب في القرار، وليس في الشروط المادّية والذهنية القابعة خلفه.
ليست المشكلة هذه جديدة، بل تعود إلى بدايات عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وتصل إلى التيّارات الفكرية الإصلاحية التي سادت يومها ولامست السطح، حينما حاولت مواجهة التأخّر العربي، خصوصًا وأن مجملها كان يعبّر عن قراءةٍ بقيت على الهامش، أولًا على مستوى الحدث الاستقلالي عن السلطة العثمانية؛ وثانيًا على مستوى كيفية تلقّف حدث الاستعمار ومواجهته؛ وثالثًا على مستوى النزعة الليبرالية وحدث الهيمنة الأيديولوجيّة التي كانت مسيطرة في دول الاستعمار، والتي ذهب انعكاسها في عالمنا إلى أن مجرّد استحداث حالة "الغرب" في الواقع العربي يمكنها أن تغيّر المصنع السياسي، ويمكنها أن تنقل بلداننا إلى حالةٍ من التقدّم تضاهي الدول الأوروبية الصناعية والعلمية.
كيف يمكن التهجّم على الأنظمة والتهجّم على الربيع العربي الذي قام على هذه الأنظمة في الوقت ذاته؟
من هذا المنطلق، يكشف لنا الكلام وسيل المواقف المتلكئة اليوم، بالإضافة إلى الموقف القديم المستجدّ من الأنظمة وقراراتها السياسية، أن الذهنية ذاتها ما زالت مستمرّة، وما زالت المقاربة ذاتها تهيمن على المشهد، وها هي تظهر في أشكال مختلفة، وإنْ بكلامٍ جديد، على الرغم من أنه يتحدّر من أصل واحد. مقاربة عقيمة ترى في الموقف والقرار السياسي والحالة الحضارية تأخّرًا وعقمًا، وتتأسّس على منطق يعكس حالة عارمة من التناقض والهشاشة التي يمكن تهفيتها بسهولة، خصوصًا عندما يتبادر إلى الذهن السؤال: إذا كان موقف أغلبية الأنظمة مما يجري في فلسطين هشًا، ومتواطئًا حسب قول بعضهم، فلماذا ينتقده جزء كبير من الأصوات ذاتها التي سبق وانتقدت، لا بل تهجّمت على الحراك الموسوم بالربيع العربي؟ ألا يحوي الأمر تناقضا كثيرا إلى درجة يمكن القول معه إن التهجّم، والمقاربة التي يتأسّس عليها، قول يكاد لا يقول شيئًا لحدّة تناقضاته؟ كيف يمكن التهجّم على الأنظمة والتهجّم على الربيع العربي الذي قام على هذه الأنظمة في الوقت ذاته؟
لتلمّس الإجابة على مثل هذا النوع من الأسئلة، يمكن القول إن الموقف الرافض أغلبية القرار الرسمي العربي اليوم، والرافض الربيع العربي البارحة، يكشف عن عُقمه جرّاء استبعاد أية جذرية في المقاربة مع كل يوم إضافي بعد عملية طوفان الأقصى. إذ لا بد من الحسم بأن هذا الرفض المزدوج ينبني في هشاشته على لغوٍ وتفاوتٍ لا يهدف إلى تغيير القرار السياسي، بل بالكاد تعديله من دون توفّر أيٍّ من شروط هذا التعديل. ناهيك عن أنه يكشف في رفضه وقبوله الحراك الاحتجاجي العربي، بهذا الشكل الاستنسابي، عن أسس طائفية ومذهبية ومناطقية تنعكس في منطق فئوي سلطويّ يصبّ بشكل مباشر، أو غير مباشر، عند الطبقات الحاكمة العربية ومجمل نظامها الرسمي. وبكلام آخر، هو مجرّد كلام يدور في حلقة مفرغة، إذ يصبّ، مجمل ما يصب، وعلى الرغم من جوهره الرفضي الذي يبدو متماسكًا، أولًا في الدفاع عن الأنظمة التي ينتقدها ورفض كل محاولات تغييرها، وثانيًا في الدفاع عن مصانع القرار السياسي نفسها مع تعديل بسيط غير ممكن، وثالثًا في الدفاع عن الثورات المضادّة للربيع العربي. ما يعني أنه منطق يعود، في جوهره المتناقض، شاء أم أبى، إلى تغذية صلب حالة التلكؤ نفسها، وإلى نقطة البداية والتموضع في الحلقة المفرغة إياها، تلك التي لم يقم الربيع العربي إلا بهدف البحث في كل إمكانات تأسيس نقيضها.