طرائف من سيرة "بريكس"
كثير من الحبر أسالته القمة الـ15 لتجمع "بريكس" أواخر أغسطس/ آب الماضي في جوهانسبرغ، مثلما أيقظت أحلاماً كثيرة من غير المعروف إن كانت ستنتهي أوهاماً. تحدّد أدبيات "بريكس" رسمياً لنفسها بندين تنفيذيين يترجمان الشعار الأيديولوجي العريض لـ"الانتقال إلى عالم متعدّد الأقطاب يُعلي من صوت الجنوب في أجندة العالم": ــ رفض نظام العقوبات الغربية المفروضة على الدول من خارج مؤسّسات الأمم المتحدة المكبلة بالفيتو، وـ كسر هيمنة الدولار على المبادلات التجارية العالمية. الأول معناه جعل أي بلد حرّاً بتبنّي سلوك حربي أو قمعي أو استئصالي من دون مساءلة ولا عقاب، بحجّة سموّ السيادة الوطنية على أي اعتبار آخر. للهدف الثاني تفسيران، إما اختراع عملة موحّدة جديدة تُجرى بها المبادلات بين أعضاء النادي وقروضهم بعيداً عن مؤسّسات "بريتن وودز" من صندوق نقد وبنك دوليين، أو، وهو الخيار الأسهل، جعل المبادلات والقروض بالعملات المحلية للبلدان الأعضاء، والأمر جاري اعتماده على كل حال بموجب اتفاقات ثنائية. بكلام آخر، مطلوب نظام دولي جديد تُنزع فيه مكانة الشمال والغرب من دون المسّ بالرأسمالية ناظماً اقتصادياً. المشكلة الأيديولوجية لمؤسّسي التجمع من روس وصينيين، هي مع الديمقراطية والليبرالية ومع أميركا ظالمةً كانت أو مظلومة، لا مع الرأسمالية التي لا تمسّها كلمة من أدبيات "بريكس". واستعراض سريع لأسماء البلدان الأعضاء، المؤسِّسة (الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا)، وتلك التي ستصبح أعضاء بدءاً من مطلع العام المقبل 2024 (الأرجنتين وإثيوبيا وإيران والإمارات والسعودية ومصر)، تُظهر كم أن مشكلاتها المبدئية أو التطبيقية كبيرة مع الديمقراطية.
إذاً "عالم جديد" جنوبي الهوى يريد إرساءه التجمع الذي أعلنت 40 دولة عن رغبتها بالانضمام إليه، 23 منها أتمت المعاملات الرسمية للترشّح وإجراءات إيداع الطلب. وعندما يُعرف أن التجمّع (قبل توسيع صفوفه حتى) تُنتج بلدانه الخمسة ربع ثروات العالم ومساحة دوله 27% من كيلومترات كوكبنا، ويعيش فوقها 42% من سكان المعمورة وهي ذات سرعات متفاوتة في النمو والإنتاج، يصبح لزاماً التعامل جدياً معه وعدم الاستخفاف به رغم ما يعتريه من عداوات بين أعضائه وتناقضات وخلافات. من بين تشوّهات الولادة، أن حصة الصين وحدها 70% من مجموع الناتج الإجمالي لتجمّع الخمسة الذين لا تضم صفوفهم أي بلد من أوروبا وأميركا الشمالية والوسطى ولا أوقيانيا. أهم مؤسّسات التجمّع، "بنك التنمية الجديد" الذي يُعرف أكثر بـ"بنك بريكس للتنمية" في 2014، هو بنك رمزي، برأسمال 50 مليار دولار، تأخرت ولادته نتيجة خلافات جوهرية بين الأعضاء حول الحصص والغايات. خلافات تبدو هامشية عندما يصل الحديث إلى العداء المستأصل بين أكبر بلدين في التجمع، الصين والهند. والطريف أنه ما أن انتهت قمة جوهانسبرغ وخبت صورها التذكارية وابتسامات رؤسائها، حتى باشرت القوات الهندية مناورات عسكرية ضخمة في إقليم لاداخ المتنازع عليه مع الصين. كذلك فإن قبول عضوية بلد جديد يحتاج إجماعاً هو نقطة ضعف شبيهة بما يعاني منه حلف شمال الأطلسي في الجهة الغربية الشمالية من العالم. التوسيع تخشاه الهند باعتبار أن الوافدين الجدد قد يصطفون إلى جانب الصين في أي موضوع يُطرح في إطار التحالف. حالها حال البرازيل التي تدرك أنه كلما زاد عدد الأعضاء، كلما قلّ تأثيرها ونفوذها داخل التجمع.
لكن قبول بلدان نفطية جديدة مثل السعودية وإيران والإمارات، إلى جانب المؤسِّسة روسيا، ينقل "بريكس" إلى مستوى هجومي حاسم في ظل ما يشبه حرب أسعار تديرها روسيا في "أوبك" و"أوبك+" بمساهمة سعودية أصيلة لتقليص حجم الإنتاج بهدف إبقاء سعر النفط مرتفعاً، نكاية بأميركا وأوروبا من ضمن أهداف اقتصادية أخرى.
لكن جميع الأعضاء الستة الجدد (ما عدا إيران) حالهم كحال عضوين قديمين، الهند وجنوب أفريقيا، يريدون وضع رِِجلٍ في المعسكر الشمالي ــ الغربي، وأخرى في التجمّع الجنوبي ــ الشرقي. والانفصام ذاك يجد أحد تعابيره في حالة جنوب أفريقيا؛ تجارتها مع روسيا نسبتها 0.23% من مجمل مبادلاتها، بينما تشكل مع الولايات المتحدة وأوروبا 30%. رغم ذلك، فإن الانحياز الجنوب أفريقي لروسيا سياسياً لا تخطئه عين متابعة ولو من بعيد للأحداث الدولية. وما سفينة السلاح والذخائر التي أبحرت من كيب تاون إلى روسيا في ديسمبر/ كانون الأول الماضي إلا دليل واحد على تعلّق بريتوريا بنوستالجيا سوفييتية تعود إلى زمن دعم موسكو المؤتمر الوطني الأفريقي ضد نظام الأبارتهايد.
للطرافة في السيرة الذاتية لـ"بريكس" فصول. تبدأ من ولادة فكرتها عام 2006 في نيويورك، رمز العالم الأميركي الذي يريد آباء "بريكس" وأبناؤه طيّ صفحته، ولا تنتهي في تشديد أدبيات قادة التجمّع في تصريحاتهم وبيانهم الختامي على "عدم انحيازهم" إلى أي معسكر. نعم والله، تجمّع أسّسته روسيا والصين ليس منحازاً لروسيا والصين.