طبقات اللاجئين
يوحي الترحيب الغربي باللاجئين الأوكرانيين، إثر الحرب الروسية على أوكرانيا، بأن اللاجئين طبقات؛ قسم مرحب به، وقسم مرذول، وقد عبّرت هذه التصريحات العنصرية التي جاءت من أوساط مختلفة سياسية وإعلامية، عن واقع حال عدائي يسود الدول الغربية تجاه اللاجئين الذين قدموا من الشرق الأوسط وأفغانستان وأفريقيا. من خلال الحديث عن اللاجئين الذين يشبهون الأوروبيين: شقر وعيون خضر. وهم ضحايا حربٍ عدوانية يستحقّون التعاطف معهم، خصوصا وأن لهم حسابات على "فيسبوك" و"إنستغرام"، ويركبون سياراتٍ مثل سياراتهم! وليس هناك خوفٌ من أن يكونوا إرهابيين متخفين بصفة لاجئين، كما كان اللاجئون القادمون من بلدان الشرق الأوسط. ولم يتورّع الرئيس المجري عن الحديث بكل فجاجة عن اللاجئين الذين "نعتقلهم"، وهم القادمون من الشرق الأوسط، ولاجئين "نرحب بهم" وهم القادمون من أوكرانيا. كما صدرت عن صحافيين غربيين عديدين تصريحات تحمل المعاني العنصرية ذاتها.
المفارقة أن هذه التصريحات جاءت من زعماء الدولة الأوروبية التي كانت جزءاً من المعسكر الاشتراكي سابقاً، وفي مقدمتهم الرئيس البلغاري الذي يقف يرأس بلدا خسر، في العقود الثلاثة المنصرمة، أكثر من مليونين ونصف مليون من سكانه الذين هجروه بلا عودة، بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلد. وبالتالي، من غير المنطقي أن يستهدف اللاجئون الأوكرانيون بلداناً مثل بلغاريا أو المجر أو غيرهما من بلدان أوروبا الفقيرة، في وقت مُنحوا حق الوصول إلى كل الدول الأوروبية.
كل حرب تفرز مشكلة لاجئين، لأن الحرب تجلب القتل والدمار، من حق البشر الهروب من الموت، والنجاة بأرواحهم وأرواح أولادهم، لأن الفئات الضعيفة هي أكثر من يتأثر بالحروب. وفي مقدمة هؤلاء الأطفال والشيوخ والنساء. ومع كل حرب يجد ضحاياها التعاطف مع حالتهم الإنسانية، ويتشكّل حماسٌ حقيقيٌّ من أجل مساعدتهم للنجاة من القذائف التي تنهمر عليهم. والتعاطف الغربي الذي يحظى به اللاجئون الأوكرانيون اليوم هو موقف يخفف عن اللاجئين آلاما شهد مثلها لاجئون قدموا من بلدان أخرى، وكانت رحلة لجوئهم أصعب وأخطر، والمعاملات البيروقراطية التي تعرّضوا لها في بلدان لجوئهم فيها كثير من القسوة.
لا يعود التساهل الأوروبي في استقبال اللاجئين الأوكرانيين إلى أسبابٍ إنسانيةٍ فحسب، فهذه الأسباب لا تكفي لتفسير هذا الترحيب، خصوصا وأن دوائر الهجرة في هذه البلدان كانت تعامل اللاجئين الأوكرانيين، حتى القادمين من مناطق محتلة مثل شبه جزيرة القرم، ومناطق فيها نزاع مثل دونباس، بشكلٍ لا يختلف عن اللاجئين القادمين من مناطق أخرى، إنْ لم يكن أسوأ، قبل الحرب الروسية على أوكرانيا. مع الحرب الروسية تغير كل شيء، حتى الأصوات في الأحزاب اليمينية التي ترفض استقبال اللاجئين في بلدانها غيّرت مواقفها، وأصبحت توافق على استقبال مزيد من اللاجئين الأوكرانيين. وعندما سُئل أولف كريسترسون زعيم حزب المحافظين السويدي، وهو الحزب اليميني الأكبر في السويد، عن تغيير موقفه، والموافقة على استقبال اللاجئين الأوكرانيين، قال: "تغيّر الظروف يفرض تغيّر المواقف".
البنية العنصرية عدائية ضد الآخر، بصرف النظر عن اللون، أبيض أو أشقر وبعيون ملوّنة
التغيّر السياسي يفسّر هذا الاستقبال للاجئين الأوكرانيين، وهذا يتعلق باعتبار الغزو الروسي أوكرانيا تهديدا لأوروبا ولحلف الناتو، وهو ما أحدث موقفاً موحداً بضغط من الولايات المتحدة، بعد تململ بعض الدول من موقفٍ حاسمٍ من المقاطعة الأوروبية روسيا، خصوصا في قطاع الطاقة الذي تعتمد فيه على روسيا. من الواضح أن الضغط الأميركي من أجل وحدة "الناتو" في مواجهة الخطر الروسي هو الذي فرض وحدة الموقف الأوروبي من الحرب الروسية على أوكرانيا، القائم على دعم أوكرانيا، من دون التورّط في صدامٍ مسلّح مع الروس. من أجل ذلك، رفضت الولايات المتحدة فرض منطقة حظر جوي فوق أوكرانيا، كما طالب ويطالب الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، مراراً وتكراراً. وهي فرصة أميركية لإعادة الاعتبار لحلف الناتو ووحدته، بعد التفكّك الذي أصاب علاقاته الداخلية، في ولاية الرئيس السابق، دونالد ترامب، الذي اعتبر أن الدول الأوروبية لم تدفع ما عليها من مساهماتٍ مفترضة. وهذا ما دفع العلاقات الأميركية ـ الأوروبية إلى التوتر، خصوصا مع ألمانيا وفرنسا، وقد سحب ترامب جزءاً من القوات الأميركية الموجودة في ألمانيا على خلفية الخلاف. ووصل التوتر في "الناتو" إلى درجة أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، صرح في العام 2019 بأن الحلف "ميت دماغياً"، ما استدعى ردّاً قاسياً من ترامب، واعتبر تصريحات ماكرون "مقرفة ومسيئة" متوقعاً انسحاب فرنسا من حلف الناتو.
الموقف السياسي من الحرب الروسية على أوكرانيا، واعتبارها معركة الغرب الديمقراطي في مواجهة تهديدات روسيا الديكتاتورية، هو الذي يفسّر التعامل الإيجابي مع اللاجئين الأوكرانيين، خصوصا وأن الدول الرئيسية المستقبلة للاجئين، مثل ألمانيا والسويد وهولندا، تعدّ نفسها ما زالت تعاني من موجة اللجوء الكبيرة التي وصل إليها في العام 2015 على خلفية الحرب في سورية، والتي ستستقبل المزيد والمزيد من اللاجئين، كلما طالت الحرب في أوكرانيا، والمتوقع أن تصل إلى سبعة ملايين لاجئ خلال أشهر معدودة، وهو رقم يخيف أوروبا، في حال وصوله فعلاً. لا أحد يعرف كيف سيجري التعامل معهم، وكيفية تأمين احتياجاتهم. والمشكلة عويصة، وكلما طال أمد الحرب وزاد عدد اللاجئين أصبحت أكثر تعقيداً، وإذا استمر الاحتلال الروسي أوكرانيا فترة طويلة، تصبح المشكلة مستعصية، خصوصا وأن الدول الأوروبية تبدو غير جاهزة لاستقبال هذه الأعداد الضخمة منهم.
التصريحات العنصرية ضد اللاجئين القادمين من البلدان الأخرى ستُستخدم ضد اللاجئين الأوكرانيين أنفسهم عندما تنتهي الحرب
كان يمكن الحكم على التعامل الأوروبي بوصفه تحولاً في القيم الإنسانية، لولا أنه لم يكن قائماً على موقف سياسي، ولم يترافق مع تصريحاتٍ عنصريةٍ تجاه لاجئين قادمين من مناطق أخرى. وهذه التصريحات العنصرية التي ستطبق على من جرى الترحيب بهم من الشقر أصحاب العيون الملونة، فالبنية العنصرية عدائية ضد الآخر، بصرف النظر عن اللون، أبيض أو أشقر وبعيون ملوّنة، لأن الأجواء السياسية في الدول الأوروبية قبل الحرب الأوكرانية قالت لا لكل أنواع اللاجئين، ومسألة اللاجئين في الاتحاد الأوروبي ذاته كانت من الأسباب التي دفعت بريطانيا إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي.
للأسف، التصريحات العنصرية التي استُخدمت ضد اللاجئين القادمين من البلدان الأخرى، ستُستخدم ضد اللاجئين الأوكرانيين أنفسهم، عندما تنتهي الحرب أو عندما تطول، وستتراجع حماسة التعاطف المشتعلة اليوم، وسرعان ما ستنطفئ وتتحوّل إلى عكسها. هذا ما حصل مع موجات اللجوء السابقة، ولن يكون الأوكرانيون استثناءً، الذين إذا صدقت التنبؤات بوصول الملايين، فستنقلب الحالة عليهم، أسرع من كل الهجرات السابقة التي جلبت إلى أوروبا أعداداً قليلة جداً مقارنة بما هو متوقع من أوكرانيا. أتمنّى ألّا يحصل هذا التحوّل، لكن "العنوان مكتوبٌ على الحائط" كما يقال.