صولجان الدولة
تذكّرت، وأنا أرى تداول صور عن محاصرة بيت النائب في البرلمان العراقي سجّاد سالم من قوى مسلحة تستقلّ سيارات حكومية، وترويع عائلته، تلك الأصوات التي كانت تتعالى عشية انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2021 البرلمانية، والداعية إلى مشاركة مكثّفة في الانتخابات من أجل تغيير وجوه أحزاب السلطة بوجوه جديدة شبابية تمثّل قيم التغيير، ولا سيما ما طرحته تظاهرات أكتوبر/نشرين الأول 2019. فسجاد سالم خرج من رحم تلك الانتفاضة، وحافظ منذ الأيام الأولى لوجوده تحت قبّة البرلمان على صوت حرّ مستقل، وتجرأ في أكثر من مناسبة على قول الحقائق التي كان يصدح بها في ساحات التظاهر. ولكن قوى السلطة مستمرّة في شيطنته، ولا أتصوّر أنه في وضع مريح.
ليس بعيداً عن سجاد سالم، يجلس نوّاب آخرون نالوا مقاعدهم البرلمانية بأصوات التشرينيين والداعمين للتغيير، وقدّموا أنفسهم ممثلين عن مبادئ الانتفاضة، لكنهم يكادون يندثرون، ولا صوت لهم، فضلاً عن صعوبة حساب ما حقّقوه خلال أكثر من سنة من عملهم البرلماني من إنجازات واضحة.
في المحصلة، القوى الداعية للتغيير، والتي تحمّست للمشاركة في الانتخابات، هي اليوم إما صامتة وكأنها غير موجودة، أو تسير "جنب الحائط" متحاشيةً إغضاب أحزاب السلطة المسلّحة، أو أنها تندفع، كي تحافظ على المطابقة مع صورتها عندما كانت في ساحات التظاهر، إلى سياسات جريئة، ربما يفسّرها بعض الحريصين أنها "سياسات انتحارية" قد تؤدّي إلى خسارة هذا النائب الشجاع في لحظة طيشٍ من بنادق الليل المجهولة!
بعضٌ ممن كانوا يتابعون أنباء محاصرة بيت النائب سجاد سالم، كانوا يتابعون، الأسبوع الماضي، مجريات الانتخابات التركية، بشقّيها، الرئاسي والبرلماني، وربما دار في خلد بعضهم سؤال عن الانسيابية العالية التي جرت فيها عملية الاقتراع خلال 24 ساعة انتهت بإعلان النتائج، وهذا شيء، بالقياس إلى التجارب الانتخابية العراقية السابقة، يبدو خيالياً. العامل الفارق في الحالتين وجود الدولة، بغض النظر عن تقييمنا الصورة الكلية للتجربة التركية، ومقارنتها بتجارب أمم أخرى، إلّا أنّ الدولة بدت وبشكل عياني أكبر من الأحزاب المتنافسة في الانتخابات، وأكبر من المتنافسين على الرئاسة، رغم أنّ أحدَهم هو الرئيس الحالي للدولة وكان يحكمها مع حزبه 20 عاماً. ولربما قال أحدهم: لماذا هذه المشقّة في جولة الإعادة من أجل 1% من الأصوات لا أكثر؟ إنها، في الواقع، مشقّة تفرضها سياقاتُ الدولة، فهي الضامن بمؤسّساتها لمصالح الجميع، وبغيابها يفقد المواطنون إيمانهم بقدرتهم على المساهمة في الصالح العام، حتى وإن بمجرد الإدلاء بصوت انتخابي واحد.
جزء من الذين حاصروا منزل سجاد سالم صدّعوا رؤوسنا بـ"الدولة" وكيف أنهم حموا الدولة، ولكن ما هي الدولة التي يتحدّثون عنها؟ إنهم، في واقع الحال وبعد التدقيق، يقصدون "السلطة"، والسلطة يمكن أن تتوفّر بالدولة ومن دونها. صاحب السلاح الأكثر يمكن أن يملك سلطة أكبر. الأكثر إجراماً يمكن أن يسيطر على حيّ كامل من الناس الآمنين المسالمين.
هذه السلطة التي تستقوي بالسلاح، يمكن أن تحاصر وتهدّد عائلة نائب واحد في البرلمان، ويمكنها بالسهولة نفسها أن تُحاصر بيوت مائة نائب أو مائتين، وهنا لن يكون هناك من معنى لرأي الشعب الذي انتخب هؤلاء النواب ليمارسوا السلطة باسمه، فهناك شرعية أخرى موازية، هي شرعية السلاح الذي لم يأخذ رأي الناس في وجوده، وإنما فرض نفسه بإكراهات الأمر الواقع.
هذا السلاح الذي يستخدم سيارات الدولة وملابس الدولة وأسلحتها وبطاقات التعريف الخاصة بها يظنّ أنه الدولة، ولا يفهم أنه في الأعراف القياسية لأي دولة تحترم نفسها سيُساق إلى السجن، لا أن يكرّم بصولجان الدولة وتاجها. وأنّه في الدولة المحترمة سيُحاصر النائب الحرّ بتشريعاته وقوة صوته في البرلمان هذا السلاح المنفلت، لا العكس.