"صوتُ" سقراط
أكثر من ألفي عام وهو يتربّع على عرش الحضارة الأوروبية، حاضراً على كلّ لسان وفي أكثر من ميدان وعصر، ونحن لا نعرف عن تاريخه الشخصي أو عن شخصيته الحقيقية كثيراً. منهم من اعتبره مجنوناً، وبعضهم رأى فيه تمثّلاً لمرض الهستيريا الكاملة، كما كانت حال جاك لاكان، وقال آخرون إنّ فيه مسّاً ويسكنه شيطان. هو الذي تستحضره الأغلبية عبقرياً ينطق بالحِكَم متمشّياً، غريب الأطباع، رافضاً أن يُدوّن في الكُتب شيئاً من أفكاره، لأنّ الأفكار تُناقَش وتتطوّر، وتثبيتها هو حكم عليها بالموت: "السبب أنّ الربّ وضع لي قانونا لمساعدة الآخرين على الإنتاج، وهو يمنعني من إنتاج أي شيء". كُثر تَحرّوا وكتبوا عنه. ومع ذلك، ما زلنا إلى اليوم نسأل من كان سقراط حقاً؟
ولد سقراط في أثينا عام 496 أو 470 ق.م، وتوفي نحو عام 399 ق.م، أخباره وصلت إلينا عبر كتابات أفلاطون وأرسطوفان، وتلميذه الآخر زينوفون. والدُه كان نحّاتاً ووالدته كانت قابلة. شارك في ثلاث حملات عسكرية دامت عشر سنوات، وتميّز بالشجاعة والإقدام والثبات. تزوّج متأخراً عام 415 ق.م (؟) من صبية تدعى زانتيب، أنجبت له ثلاثة صبيان. قيل إنّه كان قبيحاً قصير القامة، يرتدي صيفاً وشتاءً المعطف نفسه، يسير حافي القدمين، وبإمكانه الوقوف ثابتاً لساعات متأمّلاً. هناك في "المأدبة" شهادة لأفلاطون على لسان ألسيبياديس، يقول فيها: "في أحد الأيام، وكان الصقيع فظيعاً، فامتنع الجميع عن الخروج... خرج سقراط بعباءة مثل تلك التي اعتاد ارتداءها دوماً، حافي القدمين، ومشى على الجليد بكل سهولة". وفي موقف آخر: "وفي أحد الأيام، منذ الفجر، كان يقف هناك، يتأمل شيئاً ما... أخيراً، في المساء خرج بعضهم ليناموا في البرودة بسبب حرّ الصيف، وليراقبوا سقراط، الذي بقي مزروعاً في مكانه حتى الفجر".
بعض الأسماء الشهيرة في الطب النفسي وفي الفلسفة اهتمّت بحالة سقراط، ومن بينها يبرز اسم الطبيب الفرنسي لوي فرانسوا ليلو، الذي كتب عن "شيطان سقراط" (1836)، معتبراً أنّ الرجل كان يعاني نوباتٍ من النشوة سرعان ما اتّخذت طابع الهلوسة، وعلى رأسها هلوسة سماع صوت يُخاطبه، وهو ما ازداد مع تقدّمه في العمر. اعتبر ليلو سقراط مجنوناً ومهلوساً، في حين نشر بورنفيل في مجلة الطب النفسي مقالاً بعنوان: "هل كان سقراط مجنونا؟" (1864)، مستنداً إلى شهادة الفيلسوف اليوناني نفسه، الذي ذكر أنّ المستشار غير المرئي والموثوق به الذي يُفضّله، والذي كان يسميه الشيطان أو الإله أو "الصوت" الإلهي، بحسب درجة تأثّره، قد رافقه منذ طفولته: "بدأ الأمر في طفولتي: صوت يأتي إليّ ليصرفني دائماً عماً أنوي القيام به... هو الذي عارض دخولي في السياسة". من جانبه، كتب الفيلسوف والبروفسور في الطب النفسي كارل ياسبرز فصلاً عن سقراط في كتابه "الفلاسفة الكبار"، فقال إنّ سقراط لم يؤسّس حزباً، ولم يقم بأيّ دعاية، ولم يبنِ مدرسة، ولم يكن لديه برنامج إصلاحي أو نظام معرفة، "لقد استولى عليه وَعيُ دعوةِ الاضطلاع بمهمة إلهية، وكان أكيداً من دعوته، مثل الأنبياء، لكن لم يكن لديه ما يُعلنه مثلهم". هو أيضاً ذكر "شيطان" سقراط، ذلك "الصوت" الذي لا يجلب أي معرفة، ولا يدفع إلى أي عملٍ محدّد، بل يقول فقط "لا"، ويحظر الكلام والأفعال السيئة.
اتُّهم سقراط بعدم الإيمان بآلهة المدينة، وإدخال آلهة جديدة، وإفساد عقول الشباب، في حين كان يرمي طوال حياته إلى تحقيق هدف وحيد: تحسين الجنس البشري من خلال إصلاح المنطق والأخلاق والدين. في نهاية محاكمته، تحدّث مجدّداً عن "الصوت"، الذي لم يمنعه كعادته من مغادرة بيته ولم يمنعه عن قول ما قاله: "ففي ما يحصل لي اليوم، لا توجد مصادفة، وقد بات واضحاً لي أنّ الموت منذ الآن، والتحرّر من هموم الحياة، هو أفضل ما يناسبني. لذا فإنّ الصوت السماوي قد صمت اليوم".
ألا يكون صوت سقراط هو ببساطة صوت الضمير؟!