شكسبير الذي لا يموت
ثمّة قراءات مُؤسِّسة وأعمال تشكّل ركناً رئيساً من الإنتاج الأدبي العالمي، نهلت منها مختلفُ الثقافات وأضافت إليها، يتركُنا عدمُ الاطلاع عليها منقوصي المعرفة، من بينها أعمال الشاعر والمسرحي وليام شكسبير، الذي تصادف اليوم ذكرى وفاته (23 إبريل/ نيسان 1616). وقد تأثّر به، وما زال، عددٌ كبير من الكتّاب حول العام. تُرجمت أعماله إلى معظم اللغات، وما انفكّت مسرحيّاته، التي تحكي تلوينات النفس البشرية وتعقيداتها، تُقتبس وتُؤدّى منذ أكثر من 400 عام. لقد حوّل الشاعر شكسبير اللغةَ الإنكليزية، وأضاف إليها، حتى قيل: "لغة شكسبير"، واعتُبر مرجعاً في الأدب العالميّ والأوروبيّ، بقدر ما هي الميثولوجيا الإغريقية مرجعاً، بملاحمها ومسرحياتها. إلا أنّ شكسبير، المشكوك في تاريخ ميلاده (1564)، لا بتاريخ عمادته، تعرّض للتشكيك في المسرحيات المنسوبة إليه، وتبلغ نحو 38 مسرحية، موزّعة بين الأعمال التاريخية والتراجيديا والكوميديا، فشاع أنّها قد تكون من تأليف كُتّاب آخرين عاشوا في عصره. حتى أنّ هناك من شكّك في وجود شكسبير نفسه، وهم كُتّاب مثل: مارك توين وهنري جيمس، وحتى سيغموند فرويد، ودليلهم عدم وجود أيّ ذكر لأعماله المسرحية في وصيّته، وغموض الظروف المحيطة بسنوات تكوينه، وشملت حجج هؤلاء اختلافاتٍ في أسلوبه، وعدم التوافق حتى على تهجئة اسمه. وقد وصل التشكيك في وجود شكسبير، وفي مقدرة رجل واحد على إنجاز مثل إنتاجه الاستثنائي المزعوم، حدّ وضع قائمة في عام 2007 تضمّ أسماء خمسين كاتباً محتملاً، ثمّ لائحة أخرى مماثلة في عام 2012، تحوي 77 اسماً (!)
اليوم، تضاءلت تلك الشكوك إلى حدّ كبير، وإن لم يتوقّف علماء اللغة عن مواصلة تحقيقاتهم وأبحاثهم، فقد بات وجود شكسبير مؤكّداً. والحال، إننا لا ندري فعلاً إن كان الشكّ بوجوده ناتج عن عبقريّته ونصوصه الفذّة، التي لم يُخفّف الزمن وتبدّل العصور والأحوال شيئاً من ألقها، أم من عبقرية رسم شخوص نصوصه، نحو: ليدي ماكبث، وهاملت، والملك لير، وريتشارد الثالث، وروميو وجولييت، وسواها. حتى أنّ بعض الجُمَل والصور الشعرية والشخصيات، أصبحت محفورة في المُخيّلة الجمعية، متداولةً ويُستشهد بها عبر الأزمنة والأمكنة. من منّا لا يعرف أو لم يُردّد يوماً عبارة هاملت الشهيرة "أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة" أو مقولة ريتشارد الثالث: "مملكتي مقابل حصان" أو هذيان ليدي ماكبث، بعد دفع زوجها إلى قتل الملك: "كل عطور العالم لن تمحو هذه الرائحة عن يدي" أو مشهد الساحرات الثلاث التي يلتقي بهن ماكبث عائداً من المعركة منتصراً أو الملك لير هائماً مجنوناً في العراء، بعد توريث ابنتيه، وطردهما إياه من القصر...
عندما وصل شكسبير إلى لندن، كان الإنتاج المسرحي منتشراً بكثرة، وكان هناك أكثر من مائة مُؤلَّفٍ مسرحي شهدت معهم الكتابة الدرامية نهضةً مذهلةً، خاطبت النخبة الأرستقراطية بقدر ما توجّهت إلى العامة. وبعد أن كان الشكل الأخلاقي هو الأكثر شعبيّة، ساهم كريستوفر مارلو وتوماس كيد في ثورة مسرحية باقتراحهما أعمالاً دراميةً جمعت بين التوجّه الشعبي والعمق الفلسفي والإبداع الشعري، مُبتعدةً عن سذاجة الرموز الأخلاقية المباشرة. في هذه الأجواء، باشر شكسبير التمثيل، ثمّ الإخراج، وصولاً إلى كتابة نصوص طرح عبرها أسئلة عميقة حول تناقضات الطبيعة البشرية، مع التركيز على الفضائل العظيمة، ما أكسبه انتباه القصر، الذي أمّن له وضعاً مريحاً كي يستمرّ في عمله.
ما بين عام 1590 وعام 1600، لبّت أعمال شكسبير المطلوب منها، ونالت رضا السلطات، وكان هذا شرطاً من شروط العمل والرواج، إذ ينبغي للموضوعات أن تنتقد الفوضى، والظلم الناتج عن طموح شخصي. لكن منذ عام 1600، وما بعده، أضحت أعماله أكثر جدّية فعكست تشاؤماً درامياً، فبرز الموت والجنون والتطرّف في مقدمة موضوعاته. بعد عام 1608، أصبحت تلك المآسي أقلّ قتامة وتشاؤماً، إلى أن قرّر شكسبير التقاعد من المسرح عام 1611، فترك لندن وقفل عائداً إلى موطنه.