شريان الدم من مجزرة التضامن إلى اغتيال شيرين
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
ليست مجرّد جريمة فردية غرضها كتم الصوت الحر، ولم تكن أبداً طلقة غدرٍ منفردة، تلك التي أردت الشهيدة شيرين أبو عاقلة على أبواب مخيّم جنين، إنها مسيرة طويلة من تبادل المصالح بين الكيان الصهيوني وأنظمة الحكم الديكتاتورية العربية، فليس من المصادفة أن يكون أعتى جهاز أمنٍ في سورية الأسد بمسمّى فرع فلسطين، وليس غريبا أن تكون مهام هذا الجهاز قمع الفلسطينيين وملاحقتهم على النفَس، مثل السوريين وأكثر، إنها تقاطعات المصالح بين استدامة عروش الاستبداد ومصالح الاستعمار الاستيطاني.
من حيّ التضامن في دمشق مرّت جنازة شيرين قبل اغتيالها بعشرة أعوام، من هناك صرخت أمهاتٌ كثرٌ فقدنَ فلذات أكبادهنّ، وناحت زوجاتٌ كثرٌ على أزواجهنّ وبكى أطفالٌ رضّعٌ أمهاتهم. في مخيمات فلسطين واليرموك وحندرات والرمل ودرعا، مشى نعشُ شيرين، فأردته حرابُ جنود الأسد قبل أن تُرديه همجية شرطة كيان الاحتلال. عاشت شيرين في قلوب السوريات والسوريين، وروّت تراب دمشق مثل ما روّت بزكيّ دمائها تراب فلسطين. هنا عانق طائرُ الفينيق روح الأخوّة والمصير والحُلم الواحد، فلسطينُ من الشام والشامُ لفلسطين.
رحلة أخرى بين الأوطان والمنافي، من منفى الوطن السليب إلى منفى الذاكرة، لكنّها ذاكرة تأبى النسيان
وحيثُ إنّه لا حياد في صراع الوجود، كانت شيرين في صفّ الضحايا، بل كانت صوتهم وصورتهم، كانت بينهم إلى أن أصبحت واحدةً منهم، هي التي جاءت إلى الدنيا بعد احتلال القدس بثلاثٍ عجاف، فأصبحت خلال نصف قرنٍ ونيّف صوت القدس الصادح وصورة فلسطين الصامدة المرابطة. وعلى مدى ربع قرن، حملت على أكتافها جزءًا من حاضرها ومستقبلها. قدّر الله ألا يكون أهل شيرين ممن تركوا القدس بعد احتلالها واتجهوا إلى دمشق المحتلّة هي الأخرى، ولو كان القَدَرُ غير ما حصل، لأمكن أن تكون شيرين الآن في إحدى زنازين سجن صيدنايا، أو في إحدى حُفر التضامن أو غيرها من تلك الممتدّة على مساحة سوريا طولاً وعرضاً، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً.
هي رحلة أخرى بين الأوطان والمنافي، من منفى الوطن السليب إلى منفى الذاكرة، لكنّها ذاكرة تأبى النسيان. لم تقف صورة شيرين عن تصدّر الأخبار، وكلّما رعد برق في سماء فلسطين جاوب صوتُها صداه، ولن يمحي التقادمُ محيّاها كما لم يمحِ صوتَ محمود درويش ولا قلمَ غسان كنفاني ولا بندقيّةَ خليل الوزير. هي ذاكرة الزيتون والبرتقال في بيّارات يافا وسهول الجليل، ذاكرة اليانسون والزعتر على أسوار القدس وجنين، هي خيوط التين المجفّف والثوم المعلّق في أسقف الدور، هي صوت أجراس الكنائس وصدح مآذن المساجد، هي بُحّةُ صوت ابن البلد الغريب إذ ينادي عائدون.
حرّضت دماءُ شيرين انتفاضة في عروق شباب فلسطين، فكيف لا؟ وشريان الدم النازف لم يتوقف يوماً بين الشام والقدس
كثيرون سبقوا شيرين إلى العُلا في ساحات النضال، فاستشهدوا وروّا ثرى بلادهم بدمائهم الطاهرة، وها هي شيرين تضيف لهم قمراً ساطعاً في سماء العروبة، نجماً أبدياً يزيّن سماءنا الواسعة ويرشدنا كنجم القطب إلى مصيرنا المعلّق بأكفّنا. وكي تبقى شيرين ورفاقها منارات لنا في أفقنا ومستقبلنا، علينا أن نعمل على إبقاء شمعة تضحيتهم متّقدة، علينا أن نُبقي أصواتهم صادحة كلّ ساعة وكلّ حين. لن يكون من المجدي ملاحقة قتلة شيرين أمام محاكمهم، فهي منهم ووجدت أساساً لحمايتهم لا لمعاقبتهم، لكن ستكون بمقدورنا ملاحقتهم وملاحقة دولتهم الراعية للإرهاب أمام محاكم دول أخرى، ويجب أن تتحوّل هذه الملاحقات إلى محاكمات يومية أمام الرأي العام العالمي، يجب أن يعرف الناس في كلّ الدنيا أيّ المجرمين هؤلاء الصهاينة، وأيّ مجرمين هؤلاء حلفاؤهم من حكام العرب.
وحّدَ دمُ شيرين قبضات الفلسطينيين وأصواتهم، فجمع موتُها ما فرّقته السياسة وما باعدته الأيديولوجيا وما مزّقته الاختلافات الحزبية والفصائلية. أمّا في حيّ التضامن الدمشقي، فما زالت أجساد أخوة شيرين تقبع في حفرة منسيّة من بين مئات الحفر المتناثرة هنا وهناك. وبانتظار يومٍ يستطيع فيه العالم انتشالها من براثن الموت، لإعادة دفنها بما يليق بكرامة البشر وبجلال الموت ذاته، وستبقى أرواحُهم هائمةً مع روح شيرين الباحثة عن العدالة. وكما نكأت مجزرة حي التضامن جراحاً لم تندمل في أجساد السورييّن، حرّضت دماءُ شيرين انتفاضة في عروق شباب فلسطين، فكيف لا؟ وشريان الدم النازف لم يتوقف يوماً بين الشام والقدس، بين التضامن وجنين، بين السوريين والفلسطينيين.
لروحك الرحمة شيرين، ومثلها لأرواح كلّ من سبقوك من أبناء سورية وفلسطين وبناتهما.
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.