شاطئ لي وحدي
أريد شاطئاً لي وحدي، برمالٍ بيضاء ناصعة، ومياه رقراقة تتلألأ زرقةً وأنواراً. أريد شاطئاً بفضّة وفيروز وينابيع باردة عذبة وأقحوان، منبسطاً ككفٍّ رحيمة، سهلاً كلفظة حرف الياء. فوقه، أنصب خيمةً صفراء بلون الشمس، يظلّلها شجرٌ مورقٌ تنمو عليه ثمار الغبطة والامتلاء، وداخلها كتابٌ وحيدٌ تتبدّل سطوره كلّ حين، فلا أنهي قراءته ولا تنتهي قصّته، ولا يموت أبطاله أو يشيخون.
أريد قارباً عاجياً أملأه خبزاً وزهراً وأسماكاً بيضاء بعيون لؤلؤيةٍ وأجسام شفّافة، أحمل فيه ذاكرتي الثقيلة، القتيلة، ثم أطوف بها إلى البعيد، إلى جزيرةٍ نائية أنسى اسمها ومكانها، وحتى أنّي زرتها يوماً بعد أن أعود. وإذ تتعب قدماي من الترحال، أخترع كرسيّاً بمظلّة، يتمدّد طولاً أول المساء، لكي أرقب المغيب ما طاب لي، ثم عرضاً في الهجيع لكي أنقلب على جانبي، فيما أنا أسامر قمراً مائل الرأس بصوتٍ يعلو فوق هدير الأمواج.
سأضيف إلى المشهد فراشاتٍ مرفرفة لا تموت، ولا تحرقها الأضواء، وفراشاً أبيض متفاوت الأحجام تتبدّل ألوانه مع ساعات النهار، قبل أن تحوّله حلكةُ الليل قناديلَ صغيرة من ذهب وبرتقال، بأجنحةٍ تبدّد خشية الظلام. وفي الصباح، أصنع حبالاً من أليافٍ تمتد بعيداً، بعيداً، وتصنع جسوراً معلّقة لزوّار محتملين، لغرقى مُقبلين، لبحارةٍ أضاعوا خرائطهم، وتاهوا عن أمهاتهم، ولجيوشٍ من قتلى شربتهم الأرضُ، وحوّلتهم إلى نبات.
أفق أيها السيّد الذي بلا اسم ولا عنوان. افتح عينيك هنا والآن. لقد آن الأوان لكي توقظ السدود، وتوقد الرماد، ثم تكسر العصا التي رافقت خطاك. ضع قدمك على هذي الرمال العذراء، ولتكن دعساتك عليها هي أوّل العبارات. قم أيها العبد الذي بلا أسياد، واخترع سيّداً لك، ثم اشطره نصفين، نصفاً لكلّ عين، ونصفاً ثالثاً لكلتا اليدين. قطّعه قطعاً صغيرة ترميها تباعاً طوال الدرب المديد، وبعد ساعاتٍ لا أكثر، يأتيك الغول الذي يسرح ويمرح في الغابات ليسلّمك رسالة شفهية تقول: اجتز شجرة السنديان، اقفز فوق التي فيها ثمر البلان، ولا تخطئ في اختيار الغصن الذي يطاول الأرض ويثرثر مع الماء. وإذا التفتَّ، وما رأيتَ شيئاً أمامك سوى الفراغ، انحرف صوب اليمين، ثم داعب شعرك عدة مرات، لكي يدرك غولُك أنّك بتّ في أمان.
وبالمناسبة، ماذا جئتِ تفعلين هنا ومن دلّكِ عليّ؟ صرخ بي الغولُ اللئيم. كان وجهه مملوءاً بثوراً بنفسجية وزرقاء، وأنفه متطاولاً وقحاً ليس به أدنى تناسق أو احترام، وساعداه على جانبيه مُسبلين وطويلين يكاد يتعثّر بهما. كيف تسألني، أجبتُ متلعثمة، وأنت مدرك أنّك ماضٍ في انتظاري، وأنّي حتماً قادمة إليك. بابتسامةٍ ماكرة تابع الغول: حسناً، إليكِ إذاً هذا الاتفاق، تُبقين أحلامك في الخارج، وكلّ ما يمتّ إليها بصلةٍ من قريب أو بعيد، فآذن لك بالدخول. ولكنّي في حلم الآن، أجبته، فإن استيقظتُ انتفتِ الغابةُ وكلُّ ما فيها، وانتفيتَ أنت.
ضرب الغول قدمه في الأرض، فارتجّت بقوة، ففتحتُ عينيّ هلعةً، فإذا حُلمي قد انصرف عني، وإذا غصّةٌ عالقة في الحلق وطعمٌ غريبٌ بالمرارة، فيما صدى صوت الغول يتردّد في أذنيّ، مبتعداً كحصاة تتقافز فوق الماء. حتى أحلامي اللطيفة رهنٌ بإرادةٍ طاغيةٍ قبيح يُفتي بما يصلح ولا يصلح، يا الله؟ لا بأس، أغمض عينيّ بالقوّة وأخترع حلمي من جديد... أريد شاطئاً أبيض في أيّ مكان، إنّما ليس في لبنان، وليس في آسيا حتى، ولا في سواها من القارّات، مثل ذاك الذي رأيته ليل أمس، قبل أن أغفو تماماً، وبعدما أطفأتُ الشاشة الصغيرة وحروبها الكثيرة، متقيّئةً روحي على البلاط.