سورية يا حبيبتي، ناش كراش، "بلدنا"
ناش كراش تعني باللغة الروسية "بلدنا"، أو "منطقتنا" بحسب القاموس. هذا اسم المطعم الروسي الذي افتتح في دمشق قبل أيام، في منطقة المزّة، فهل هو بلدنا نحن السوريين، أم بلدهم هم الروس؟ بحسب مشاهد الفيديو والصور التي عرضتها بعض صفحات التواصل الاجتماعي لافتتاح المطعم، يوم الجمعة، الرابع من شهر يونيو/ حزيران الحالي، يبدو مطعمًا فاخرًا إلى درجة كبيرة، قيل إنه يعود إلى المستشارة الإعلامية للرئاسة لونا الشبل، مع زوجها الرئيس السابق لاتحاد طلبة سورية 17 عامًا عمّار ساعاتي، ومن الفيديوهات الرائجة ما نشرته سيدة الأعمال لمى الرهونجي، على حسابها في "إنستغرام"، تعرض فيه زوايا من المطعم، مع تقديم شكرها للونا الشبل على الدعوة، وتهنئتها ومباركتها بالمطعم: "انشالله آية الرزق"، وهذا تعبير شامي للمباركة في قيام أي مشروع أو نشاط تجاري. وشاع أيضًا على مواقع التواصل، إشهار على موقع إلكتروني، يُقال إنه لابن عمار ساعاتي، إن الحجوزات كاملة حتى السابع من شهر يونيو/ حزيران الحالي، وهذا ما أضرم سجالًا حاميًا على المواقع. في المقابل، انتشرت وثيقة تفيد بأن ملكية المطعم تعود لآخرين، وتسمّي الوثيقة المنشأة شركة ناش كراش، ومالكيها فداء جبر سليمان وعلي نجيب إبراهيم.
مجتمع سوري مفتّت، لكنّه "مجمّع" في بوتقة واحدة بحكم القوّة
من الطبيعي والشائع، في معظم الدول، وجود مطاعم تنتمي إلى ثقافات متنوّعة وعديدة، إنما في دول مستقرّة ومجتمعات تعيش بشكل طبيعي ولا تعاني من مشكلات جذرية ووجودية كما المجتمع السوري. وبغض النظر عن اسم مالك المنشأة أو المطعم، بالرغم من أرجحيّة ارتباطه باسم لونا الشبل، فإن إشهاره في هذه الظروف التي يكابد فيها 90% من الشعب هموم الحياة، ويخوضون معاركهم اليومية من أجل الحصول على ما يبقيهم أحياء ليس إلّا، ولو بسدّ الرمق من دون أي طموح أو حلم بتحسين وجباتهم أو توفير ما يليق بطفولة أبنائهم، هذا الإشهار فيه انتهاكٌ لكرامة الناس، في أبسط تعبير، خصوصا أن الشعب غارقٌ في دوّامة الحياة، لكنه يرى ويسمع ويُذهل ممّا يرى، إذ لا يعرف شيئًا عن اقتصاد البلاد ومن يديره وكيف يُدار، كل ما يُصدّر إليه هو مسؤولية العقوبات الاقتصادية الجائرة، والمؤامرة الكونية التي تستهدف سورية الصامدة والمقاومة والممانعة، لكن القرائن أمامه من دون أن يستطيع تفكيكها، فهذا الشعب يمشي في الحياة كالمُسرنم، كمن يمشي في نومه، لا يستطيع أن يصحو، فنومه ليس كالنوم الطبيعي، فهؤلاء يمكن أن ينبّههم بأي شيء، ليصحوا ويعودوا إلى يقظة الحياة، لكنهم شبه نائمين من كثرة الآلام وشدّتها، محشورون في ذلك البرزخ المظلم بين الحياة والموت.
هل يمكن وصف المجتمع السوري بالمجتمع المنهار؟ لكن قبل هذا، يحقّ السؤال: هل هناك مجتمع سوري، أم مجتمعات؟ في الواقع، هناك مجتمع مفتّت، لكنّه "مجمّع" في بوتقة واحدة بحكم القوّة، كما كان قبل عقد، مجموعة من المجتمعات المختلفة في هوياتها الخاصّة، تحت ظل نظام شمولي، لم يستطع صياغة هويةٍ موحّدة تُنسب إلى سورية، ولم يفسح مجالًا للهويات الخاصة بأن تزدهر وتساهم في تشكيل مجتمعٍ كبير يغتني بتعدّديته.
طبقة من الأثرياء، لا يتورّعون ولا يخجلون من استعراض حياتهم الباذخة بكل فجور أمام أعين فقراء السوريين
لو أمعنّا النظر في واقع المجتمع السوري الحالي، خصوصا في الداخل، لرأينا أن هناك تراجعًا في عدد السكان، ولا سيما شريحة الشباب، الذين تبدّدوا بين حربٍ خطفت أرواح مئات الآلاف، وهجرة ولجوء، وما زال الحلم يراود غالبية الشباب الباقين، والدليل الحشود التي تنتظر فرصة الحصول على جواز سفر. وهناك تصدّعٌ يقارب الانهيار للمنظومات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وغيرها، كما أن الخدمات العامة تكاد تكون معدومة، فلا كهرباء، عصب الحياة المعاصرة، ولا محروقات، ولا موارد تكفي، ولا بنية تحتية تؤمّن الحد الأدنى من مقوّمات العيش في العصر، عدا الجريمة بكل أشكالها وتفشي المخدّرات، حتى يمكن القول إن لا هويّة سورية واضحة، سوى المظاهر الجامعة التي تخلّفها الحروب والأزمات الممتدّة، كما الحال اليوم. زيادة على ذلك، وفي ظلّ التقسيم الذي بات واقعًا، هناك إحلال ثقافي يجري من دون الالتفات الجادّ إليه، باعتبار أن هناك أمورًا أكثر إلحاحًا، لا تعدو أن تكون مواجهة الأزمات الآنية المتلاحقة، أزمات العيش، هذا الإحلال الثقافي سبقته إعادة تشكيل ديموغرافي لمعظم المناطق السورية، في وقتٍ لم يعد السوري، الرافض ضمنيًّا لمآلات مصيره، يستطيع أن يعرف أين هو عدوه الحقيقي، ولا كيف يمكن مواجهته، بعدما فقد ثقته بنفسه وبمن يمثلونه، هناك إيران، وروسيا، والتحالف، وتركيا، وإسرائيل التي لا تتوقّف عن استهداف مواقع ومناطق في سورية.
في هذه الظروف التراجيدية التي يُطالَب فيها الشعب بالصمود أمام المؤامرة الكونية، ومن أجل الانتصار الذي يُصدّر إلى الشعب، حتى لو على أنقاض البلاد والعباد، يتخلّق واقعٌ جديدٌ يُظهر الشعب، وقد دبّ فيه شرخ عميق قسمه إلى طبقتين ليس أكثر، فلا وجود لطبقةٍ وسطى، طبقة الفقراء التي باتت تشكّل 90% منه، وطبقة الأثرياء الذين لا يتورّعون ولا يخجلون من استعراض حياتهم الباذخة بكل فجور أمام أعين أولئك الفقراء، هذه الطبقة المالكة كل شيء، تضمّ شريحة من المقاولين وتجار الحرب وأصحاب المال المتحالفين مع النظام، بينما الشعب يدفع الفواتير كلها، من دمه وأرواحه ومستقبل أبنائه، ويسدّد الضرائب والفواتير التي لا يستطيع التهرّب منها، لأن القانون يُفعّل لحماية حقوق الدولة وتحصيلها، ولا يكترث بالحقوق الخاصة، فتلك تُترك لقانون الغاب، ولمنطق المحسوبيات والرشاوى.
لم يعد السوري، الرافض ضمنيّاً لمآلات مصيره، يستطيع أن يعرف أين هو عدوه الحقيقي، ولا كيف يمكن مواجهته، بعدما فقد ثقته بنفسه وبمن يمثلونه
هؤلاء المحكومون بجبرية الحياة الغارقين فيها، كونهم لا يملكون حق الاختيار أو إمكانيته، ينفسّون عن غضبهم على مواقع التواصل، حتى هذه التعبيرات هنا لم تعد بالحدّة والإفصاح السابقين نفسيهما، فهناك قانون الجرائم الإلكترونية، صار وسيلةً أخرى لكمّ الأفواه. ومع ذلك، التعليقات على حدث الساعة، المطعم الروسي الذي قيل إن كلفة أصغر صحنٍ فيه مائة ألف ليرة سورية، أي راتب جامعي، هذه التعليقات، لمن يتابعها، تعبّر عن حجم الألم وعمق الجرح والكرامة المنتهكة، معظمها ردًّا على ما كانت لونا الشبل تكرّر في مقابلاتها، من قبيل: لا حلول تأتي من الخارج، فلنقم جميعًا ولنتحرّك ولنبدأ بهذه الحلول. إذا ما "صمدنا" راح الوطن. فمن قائل: "أدوات الصمود تكبر وتكبر والشعب ينهار وينهار"، إلى ثانٍ: "كل الطالبو بالصمود هيك وأكتر، والباقي عم يموتوا من الجوع والفقر والمرض وما معن حقّ الدوا .."، وآخر يقول: "المواطن صار ينبح متل الكلب، سبع سنين والدولة تقول الصمود الصمود والحصار، والسيارات موديل 2022 والموبايلات صنع 2022، حتى بالصين ما متوفرة"، وغيرهم ممن لجأوا إلى السخرية المرّة، الموحية بشدّة: "وين فيني قدّم وراقي وأتوظف بالصمود، شكلو الراتب كبير، حلمي أفتح مطعم كوري شمالي؟"، أو: "على شي صحن صمود وكاسة تصدي من هالمطعم".
أمام هذا الواقع المرّ، والمفارقة المهينة في إشهار المطعم وغيره من مظاهر الفجور التي تظهر من رموز الطبقة الحاكمة والمتحكّمة، يحضر مشهد المرأة السورية المسنّة، التي ركلها على وجهها رجل تركي في غازي عنتاب قبل أيام، بدافع عنصري، ألهبت أيضًا مواقع التواصل، وأدمت قلوب كثيرين، ليس عليها فقط، بل على مصير هذا الشعب الذي يُركل على وجهه وصدره وكرامته كل يوم، وفي كل مكان، لا فرق بين ركلة قدم من فرد متعصّب، وركلة أخرى "محلّية" أصابت ما بقي من كرامةٍ لم تنتهك لدى هذا الشعب الجائع المفقر المشرّد المكلوم، لن يكون المطعم آخر الركلات، مثلما لم يكن أولها.