سورية والتحديث في زمن الجوع

20 يونيو 2022
+ الخط -

منشآت ريف دمشق السياحية ملزمة بالفوترة الإلكترونية قبل نهاية شهر يونيو/ حزيران الحالي، بينما انتهت مهلة المنشآت بالفئات ذاتها في دمشق مع نهاية الشهر الماضي (مايو/ أيار)، وهذا أمر سيتوسّع ويصير أكثر شمولًا، إذ صرّح مدير سياحة ريف دمشق، وائل كيال، لصحيفة الوطن (السورية) أن المديرية أبلغت جميع المنشآت السياحية في المحافظة بضرورة الالتزام بآلية الربط الإلكتروني للفواتير المصدّرة من هذه المنشآت مع قاعدة البيانات المركزية للإدارة الضريبية، وفق المهل المحدّدة من الإدارة المركزية في 30 الشهر الجاري. وأضاف: الثقافة الضريبية واضحة للجميع، والمستثمر الحقيقي يعرف دائماً ما له وما عليه، وأن رسم الإنفاق الاستهلاكي يُفرض على الزبون ويسدّده للمنشأة السياحية، ومن واجب المنشأة أن تورّده للخزينة العامة للدولة، حيث يجب على القطاع السياحي الوطني تسديد ما يجب عليه للخزينة.
وقد أقرّت الهيئة العامة للضرائب والرسوم نظام الربط الإلكتروني، وأبلغت جميع المنشآت السياحيّة به وبآليّاته، من أجل تصدير الفواتير إلى الهيئة. ويترتب على المنشآت المكلفة، بناء على هذا القرار، استخدام أحد البرامج المحاسبية المعتمدة لدى الإدارة الضريبية والمدرجة أسماؤها على الموقع الإلكتروني للهيئة، لمسك السجلات وإصدار الفواتير بشكل إلكتروني، وكانت وزارة المالية أعلنت في فبراير/ شباط الماضي عن إنجاز آلية إلكترونية للفواتير المصدّرة من المكلفين، تضمن حقوق الزبائن والباعة ومزوّدي الخدمات، من خلال توثيق عمليات البيع والشراء، وتجنّب عمليات عدم التسجيل في الحسابات، وضمان حصول كل طرفٍ في العملية التجارية على مستحقاته، بما في ذلك الخزينة العامة للدولة، بحسب ما جاء في مواقع إخبارية عديدة.
منظومة الفوترة الإلكترونية إجراء يهدف إلى تحويل عملية إصدار الفواتير والإشعارات الورقية إلى عملية إلكترونية، تسمح بتبادل الفواتير والإشعارات المدينة والدائنة ومعالجتها بصيغة إلكترونية منظّمة بين البائع والمشتري، بتنسيق إلكتروني متكامل، ما يعني أن لها شروطها وأدواتها وبنيتها التحتيّة، وأهمّها امتلاك القاعدة الشعبية للحدود الدنيا، على الأقل، من المعرفة الرقمية والتعامل مع الأجهزة الذكيّة التي صارت، بحدّ ذاتها، مكلفة جدًّا بسبب ارتفاع أسعارها وتدنّي سعر صرف الليرة إلى مستويات مريعة.

إصدار قرار وتعليمات ناظمة وملزمة بالنسبة لقطاعات اقتصادية عديدة في هذا الوقت، هو أمرٌ سيُحدث كثيرا من الفوضى والشعور بالظلم

هذا النظام من بديهيّات عملية الشراء والبيع في المجتمعات الحديثة المنظّمة، وكان ضرورة قبل هذا اليوم بكثير في سورية، وربّما كان هناك توجّه ما إلى تفعيله وتدريب الناس عليه، كما يجب أن يكون عليه الأمر، فقد اعتدنا قبل العام الذي انتفض فيه الشعب، على أن نقرأ في اللوحات الطرقية للإعلان، الموزّعة على أرصفة المدن السورية، عبارات تنبّه إلى الفاتورة وأهميّتها، من دون إيضاحاتٍ أخرى، في وقت كانت الحياة تمشي بإيقاعٍ يذكّر بساعات دالي، المائعة المتراخية، مثل من يجلس تحت شمسٍ ساطعةٍ في ظهيرة يوم صيفي، لكن الفاتورة لم تستطع أن تحتلّ مكانتها المهمة في وعي الناس وأنشطتهم الحياتيّة، ولهذا أسبابه التي تحتاج إلى دراسة لا مجال لذكرها الآن، لكنها من مظاهر الفساد المتأصّل في الدولة والمجتمع، وهذه حقيقة علينا الاعتراف بها.
لكن، أن يجري إصدار قرار وتعليمات ناظمة وملزمة بالنسبة لقطاعات اقتصادية عديدة، ليس فقط المنشآت السياحية، بل هناك المنشآت الصناعية وغيرها، في هذا الوقت، فهو أمرٌ سيُحدث كثيرا من الفوضى والشعور بالظلم. ومن ناحية أخرى، أليس هناك أولويات من الجدير بالحكومات أن تعطيها اهتمامًا في ظروفٍ كالتي يعيشها الشعب بغالبيته الساحقة؟ أليس الاهتمام بتأمين مستلزمات القطاعات الحيوية من محروقات وكهرباء ومواد أولية أمرًا ملحًّا؟ صحيحٌ أن قطاع السياحة ومن يعملون فيه جزء من المجتمع، لكن عن أي سياحةٍ يمكن الحديث في هذه الظروف؟ هل لدينا مقوّمات السياحة الخارجية قبل كل شيء؟ بلاد تفتقر إلى الأمان في الدرجة الأولى، ثم البديهيات، فكيف بالكماليات أو وسائل الجذب لمن يحلُم بتمضية إجازة يستمتع بها؟ هل سورية بلد سياحي اليوم؟ حتى فيما مضى لم تكن جاذبةً للسيّاح كما يُؤمل، بالرغم من توفر كثير من مقوّمات السياحة، بين طبيعة متنوعة وشواطئ وأماكن أثرية ومصنوعات وثقافة تراثية خاصة، لأسبابٍ عديدةٍ لا مجال لتكرارها.

في المنطقة الجنوبية الوضع الأمني منهار بطريقة كارثية، هذا عدا الغارات الإسرائيلية المستمرّة على مواقع عسكرية وحيوية فيها بسبب الوجود الإيراني

أمّا اليوم فإن مزاج الحرب وحده من يضبط إيقاع الحياة في الأرجاء كلّها، ومن يقول إنها شارفت على الانتهاء يكون واهمًا. يكفي النظر إلى التوتر الحاصل في شمال سورية والحديث عن عملية عسكرية تقوم بها تركيا في عملها من أجل إنشاء المنطقة الآمنة التي تتطلع إليها. ولا يمكن غضّ النظر عن التوتر الحاصل في المنطقة الشرقية، بين القوات الروسية وقوات التحالف التي تقودها أميركا، وجديدها أخيرا القصف الروسي على قاعدة التنف. أما في المنطقة الجنوبية فالوضع الأمني منهار بطريقة كارثية، هذا عدا الغارات الإسرائيلية المستمرّة على مواقع عسكرية وحيوية فيها بسبب الوجود الإيراني، كما تبرّر دائمًا إسرائيل، من دون إغفال حقيقة الوجود الإيراني الثقيل في الواقع. أمّا السياحة الداخلية، فالمواطن العادي لا يؤمّن له دخله ما يسدّ به رمقه ورمق أطفاله، فكيف له أن يحلُم بارتياد مطاعم ومقاهٍ وأماكن استجمام وغيرها؟ صارت سندويشة الفلافل وصحن الفول أو المسبّحة ترفًا سياحيًّا بالنسبة إليه. وصارت السباحة، حتى لمن يسكنون على شواطئ البحر، حلمًا بعيد المنال، بعد أن صارت رسوم دخول المسابح، حتى المصنّفة شعبية منها، مستحيلةً بالنسبة لغالبية الشعب.
صحيحٌ أن هناك مقاهي ومطاعم كثيرة في المدن، لكن من يدخلها هم من الشريحة القليلة التي لا تشكّل أكثر من 10%، غالبيتها من أثرياء الحرب الجدد، بينما ما يقارب 90% يعيشون في العوز، ينفقون أوقاتهم في التقاط حصّتهم من الخبز، وانتظار الكهرباء التي تأتي نصف ساعة كل ست ساعات من أجل اقتناص الحدّ الأقصى من الخدمة التي توفّرها، لا تتعدّى شحن بعض الأجهزة، حتى لا تكفي لشحن بطاريات الإنارة البديلة.

الشعب متروكٌ يواجه مصيره وقدره بمفرده. وزيادةً على ذلك، عليه تسديد فواتير الحرب، واستمرارية قدرة النظام على تأمين الحدّ الأدنى من الخدمات

هناك أولويّات لاستمرار الحياة، الاهتمام بقطاعات الزراعة والإنتاج الغذائي لتأمين بعض الاحتياجات الغذائية في وقتٍ صار معظم الناس جوعى، من المجدي دعم المزارعين ومربّي الدواجن والأغنام والأبقار لتوفير الحد الأدنى من مستلزمات الغذاء، خصوصا للأطفال، ودعم القطاعات الصناعية التي تؤمّن بعض الحاجات الحياتية للمجتمع، بل من الضروري تخفيف الأعباء والالتزامات عن هذه القطاعات، وعن عامّة الشعب، كما تفعل الحكومات والأنظمة التي تضع الشعب هدفها. 
الحرب السورية ليست الأولى في التاريخ، ولن تكون الأخيرة، صحيحٌ أنها تمتلك من الخصوصية والتعقيد ما يميّزها، لكن عندما تتوفر النيّة لدى الأنظمة، والحرص على بلدانها، فإن تأمين معيشة المواطنين تكون أولى الأولويات، بينما ما يحصل في سورية يتنافى تمامًا مع هذا الأمر. ما يحصل أن الشعب متروكٌ يواجه مصيره وقدره بمفرده. وزيادةً على ذلك، عليه تسديد فواتير الحرب، واستمرارية قدرة النظام على تأمين الحدّ الأدنى من الخدمات، الحد الذي يخجل معه أي شعبٍ أن يقول إنه ينتمي إلى العصر، فالفواتير والضرائب والإتاوات التي يدفعها الناس مرغمين، تزيد من معاناتهم ومكابدتهم، زيادة على أنهم باتوا، في غالبيتهم، يدركون أن هناك معادلات وضعتها الأطراف الضالعة لتحقيق توازناتٍ ما، ولم يعودوا قادرين على التأثير فيها، لأن التغيير المأمول سيأتي من الخارج بحكم الأمر الواقع، ما يزيد من سوداوية المشهد وانغلاق الأفق. ولذا نرى أن تدفق الهجرة خارج البلاد لم يتوقّف، وبات السبب الاقتصادي أوّل الأسباب الدافعة إليها، فكيف إذا كانت الحكومة تمضي في اجتراح القوانين التي تزيد من اختناق الحياة وعجز الناس عن تأمين قوتهم اليومي؟ للتحديث مقوّماته، وتوقيته أيضًا، وإلّا صار وبالًا على الناس.