سورية المنتظرة بعد سقوط الطاغية
أخيراً، سقط الأبد في سورية، بعد أن ظهر وكأنه صادر مستقبل البلد بشكل نهائي. دفع السوريون ثمناً باهظاً لهذا السقوط، والذي احتاج 13عاماً من الدم والتضحيات والتدمير الواسع بكل وسائل القتل والتدمير التي استخدمها النظام الوحشي ضد شعبه لإغلاق المستقبل السوري وإبقاء مستنقع سلطة العائلة الحاكمة الوراثية. من حقّ السوريين الفرح بالخلاص من الليل الطويل الذي خيّم عليهم، وعلى البلد، أكثر من نصف قرن من رعب حكم عائلة الأسد ووحشيته.
برحيله، ترك النظام وراءه حزمة هائلة من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، والتي تحتاج معالجة سريعة، حتى لا يذهب الوضع إلى صدامٍ مسلحٍ انتقامي بين مكوّنات هذا المجتمع المتعب والمحطّم من صراع طويل استنفد طاقاته في العقد المنصرم. والمهمّة الرئيسية التي يجب العمل عليها، هي صياغة النظام السياسي الجديد. وهو ما يستلزم إيجاد هيئة حكم انتقالي، لإدارة البلد مؤقتاً، على أن يقترن ذلك مع تشكيل هيئة عامة، تتشكّل من كل الطيف السوري السياسي والمناطقي والطائفي، لصياغة دستور سوري جديد يأخذ بالاعتبار هذا التنوع، ويضمن الحريات العامة لجميع مكونات المجتمع السوري، وفي مقدّمتها حرية تشكيل الأحزاب السياسية وحرية التعبير عن الرأي. دستور يضمن حيادية المؤسّسة العسكرية السياسية، بعد إعادة بنائها على أسس جديدة بعيدة عن عقائدية مرتبطة بالطاغية ومحكومة منه. مؤسّسة عسكرية جديدة تدمج التشكيلات العسكرية للثورة، أو لمن يرغب من هذه التشكيلات، على أن تحتكر الدولة، في نهاية المطاف، أدوات العنف، وتكرّس الصراع بين القوى السياسية في المجتمع، بوصفها صراعات ديمقراطية تسعى إلى إقناع أفراد المجتمع بصوابية خيارها السياسي عبر انتخابات حرّة، بعيداً عن العنف والصراع المسلح.
لقد حمى انهيار جيش النظام البلد من مذبحة محققة، وحقن دماء كثيرة، وجعل إسقاط النظام سلميّاً إلى حد كبير، بإخلاء أفراد جيش النظام مواقعهم العسكرية. وعودة الثوار في مناطق المصالحات للانتفاض ضد النظام وتحرير مناطقهم سلمياً، خاصة في جنوب سورية ودمشق وريفها، حيث حرّرت هذه المناطق نفسها من الطاغية من دون قطرة دم، فقد كان متوقّعاً قيام مجرمي النظام بمزيد من الجرائم الدموية لوقف الموجة الثورية الجديدة، وخاصة مدينة دمشق والساحل السوري التي تتمركز فيها القوة الأكبر للنظام. ولا تحتاج دموية النظام إلى تقدير، فقد أدمى جغرافيا البلد كلها، على مدار سنوات الثورة، بكل أدوات القتل العسكرية، فلم يوفّر صاروخاً ولا برميلاً متفجّراً ولا طائرة حربية ولا دبّابة ولا سلاحا كيميائيا لم يستخدمه لقتل الشعب السوري.
على الجميع العمل على تشكيل النظام السياسي الجديد عبر دستور جديد يشكل عقداً اجتماعياً جديداً بين السوريين
وإذا كان انهيار النظام قد جعل سورية تنجو من حمام دم، فإن على القوى في البلد أن تعمل، وعلى وجه السرعة، على حمايته من صدامٍ مسلحٍ بين فئات المجتمع، يؤدي إلى حرب أهلية، فإن نجاة سورية من هذه الحرب تعتمد على الأداء السياسي للقوى والشخصيات الفاعلة، من خلال التوافق بين التشكيلات السياسية والعسكرية على هيئة حكم انتقالي، ولتكن الوزارة القائمة (وزارة النظام)، وتعمل سريعاً على رفع العقوبات عن سورية، والحصول على المساعدات الملحة للإبقاء على الخدمات الأساسية في متناول جميع المواطنين.
في الوقت نفسه، على الجميع العمل على تشكيل النظام السياسي الجديد عبر دستور جديد يشكل عقداً اجتماعياً جديداً بين السوريين، عبر حوار مجتمعي علني وشفاف ويشمل الجميع، يعمل على نزع السلاح من التشكيلات المسلحة وحصر استخدام السلاح في المؤسّسة العسكرية، بعد إعادة بنائها بإحالة الضباط الكبار الملوثة أيديهم بدماء الشعب السوري إلى قضاء عادل، وحل الوحدات الطائفية منه وإعادة بناء الجيش على أسس وطنية، على أن يكون حيادياً بالمعنى السياسي تجاه القوى السياسية العاملة في المجتمع السوري.
لا يمكن تأسيس دولة جديد في سورية من دون معالجة جرائم النظام التي ارتكبت طوال تاريخه، وهذا يحتاج وبشكل ملح لهيئة عامة لـ"العدالة الانتقالية" مهمتها معالجة الأثر الرهيب على المجتمع السوري لجرائم النظام التي ارتكبها خلال تاريخه. وتقوم هذه المعالجة على ثلاثة أسس: الأول، تقديم المجرمين الكبار في النظام السابق إلى المحاكم. الثاني: العمل على إيجاد الآليات والوسائل من أجل تعويض ضحايا النظام وإنصافهم. الثالث، توثيق جرائم النظام، والعمل على تحويل السجون التي استخدمها النظام مسالخ بشرية إلى متاحف توثق جرائم النظام وآلام الضحايا.
المهمّة الملقاة على عاتق السوريين اليوم ثقيلة وصعبة، ومدّة السقوط الطويل للنظام جعلتها أصعب وأثقل
على الإجراءات التأسيسية للنظام الجديد أن تتكامل مع عملية "مسامحة ومصالحة" مجتمعة واسعة، تعمل من خلالها مؤسّسات رسمية ومؤسّسات مجتمع مدني وأفراد على رأب الصدع بين السوريين، وعلى إعادة توحيد السوريين، بحيث تساهم جميع أطياف المجتمع السوري بإنتاج الوطنية السورية الحديثة، وبحيث تكون هذه المسامحة والمصالحة، قائمة على النظر في عين الخراب الذي أنتجه العهد البائد، لا إشاحة النظر عنه، وكأنه غير موجود، والإبقاء على كل عوامل الانفجار في المجتمع. إن المجتمع المتصالح قادر على تنظيم صراعاته بشكل سلمي وديمقراطي، من خلال الاعتراف، ليس فقط بالحقوق المتساوية للمواطنين، بل وبالقيمة المتساوية لهم أيضاً، بوصفهم الأساس المكوّن للوطن، والهدف النهائي لكل سياسة، وليس وسائل لتحقيق أهداف كبرى كاذبة.
المهمّة الملقاة على عاتق السوريين اليوم ثقيلة وصعبة، ومدّة السقوط الطويل للنظام جعلتها أصعب وأثقل. رغم ذلك، يستطيع السوريون بتضامنهم إنجاز المهمة ووضع الأسس لمستقبل البلد. وهذه المهمة لن تكون سهلة، وستواجهها عقبات ومشكلات وتحدّيات كثيرة، من داخل البلد ومن خارجه. لكن المهمّة على صعوبتها وثقلها، هي مهمّة قابلة للتحقيق بإرادة السوريين وبإصرارهم على تجاوز الجرح العميق الذي سبّبه لهم نظام إبادي وحشي، تجاوزه مهمّة ملحّة للسوريين أجمعين.
لقد أسقط السوريون النظام المجرم، وكانت المهمة صعبة، واليوم أمامهم مهمة لا تقلّ صعوبة، وهي إعادة بناء بلدهم الذي دمّره الطاغية، ليثبتوا لأنفسهم قبل غيرهم أنهم شعبٌ مبدع، قادر على إعادة بناء بلده ومجتمعه، رغم كل الآلام والصعوبات.