سقطت طائرة رئيسي فتطايرت الأوراق
حمّل وزير الخارجية الإيراني السابق، محمد جواد ظريف، الاثنين 20 مايو/ أيار الجاري، الولايات المتحدة المسؤولية عن مأساة تحطّم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي من خلال منعها بيع الطائرات وقطع غيارها لإيران. جاء هذا بعد ليلة لم تنم فيها إيران، حين استيقظ العالم، صباح ذلك اليوم على نبأ وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان والوفد المرافق لهما إثر تحطّم مروحيتهم، مساء اليوم السابق في محافظة أذربيجان الشرقية شمال غربي إيران خلال عودتهم من مراسم افتتاح سدّ على الحدود بين إيران وأذربيجان بمشاركة الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف.
لا يخرج اتّهام ظريف من إطاره السياسي، رغم أن العقوبات الأميركية لم تزل حاضرة على نظام طهران، إلا أنّ التهرّب من العقوبات بات ميزة الأنظمة التي تشكّل إلى جانب طهران حلفاً متيناً يتكوّن من طرفين رئيسيَين الصين وروسيا. لهذا لن تقف العقوبات عائقاً أمام تطوّر الصناعة والتكنولوجيا الإيرانية، فهي التي مدّت روسيا بمسيّرات "شاهد" بنسختها المتطوّرة.
في إطار الردّ على ظريف، نقلت شبكة "أن بي سي" عن مسؤولٍ كبير في إدارة الرئيس جو بايدن، قوله إنه "لا يرى أي مؤشرات على تدخّل أجنبي في تحطّم مروحية الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي". وأضاف إن "الإدارة لا تتوقّع حدوث تغييرات في العلاقات بين البلدين بعد مقتل الرئيس الإيراني".
وقعت الكارثة مع سقوط الطائرة الرئاسية، ولكن ما لم يكن في الحسبان هو تطاير أوراق كانت حتى الأمس القريب مختوماً عليها بالسرية التامة أو على الأقل كان الغموض يلفّها، فاتّهام ظريف من الأوراق التي يلفّها الغموض، ولا سيما أنه قد يكون ابتعد في رمي الاتّهام ليطاول المنطقة التي سقطت فيها الطائرة، وهي أذربيجان الإيرانية التي تقع على الحدود مع أذربيجان الدولة، برئاسة علييف، وهنا تكمن المعضلة.
اشتكت إيران من تزايد النفوذ الإسرائيلي في أذربيجان الجارة، وخاضت حرباً سرّية معها بسبب علاقتها مع إسرائيل، إذ لطالما نظر الإيراني على أن الوجود والتعاون العسكري لباكو مع تل أبيب يشكل خطراً على أمنه القومي، فكيف إن كانت إسرائيل تملك على حدودها مراكز تجسّسية عالية الدقة تنظر دائماً إلى ما يحدث في الداخل الإيراني، ما يغذّي فرضية تحكّم الاستخبارات الإسرائيلية في أجهزة القيادة للطائرة.
تمتّع رئيسي بقدرٍ عالٍ من دبلوماسية "المراوغة" الهادفة إلى تحقيق مبتغاها بعيداً عن لغة الحرب
هذه الورقة الغامضة بين الجارتين الشيعيّتين، لطالما عمل رئيسي على فكّ عقدها، وكان جديدها أخيراً بناء السدود المشتركة بين البلدين. وفي علم الجغرافيا الطبيعية ورسم الخرائط، المياه المشتركة وإقامة السدود قد تشعل توترات سياسية بين الدول تؤدي إلى حروب عسكرية. ولكن ما كان يقوم به رئيسي مع أذربيجان، كان أبعد من سدّ وحصص مائية، كانت أبعاده تصل إلى حدّ الأحلام، بإسقاط العلاقة بين باكو وتل أبيب وتخفيف الوجود الإسرائيلي بكل أشكاله في هذه الجارة. لهذا قد تكون تهمة ظريف متناغمة مع اتّهام بعضهم الذين وجّهوا أصابع الاتهام إلى الكيان الإسرائيلي، ضمن الحرب الدائرة بين البلدين على مختلف أشكالها، الأمر الذي ترفضه إسرائيل، إذ أفاد مسؤول إسرائيلي لوكالة رويترز، إنه "لا علاقة لإسرائيل بمصرع رئيسي في حادثة الطائرة".
من الأوراق التي تطايرت أيضاً ما كتب عليه "سرّي للغاية"، تلك المرتبطة بموضوع أسرار الدولة، فهناك مراسلات لا يمكن لأحد الاطلاع عليها إلا من كان مهتماً بشكل خاص في إدارة الأمن الداخلي للدولة. فإن بعضهم قرأ من خلال التعليق الأول للمرشد الأعلى علي خامنئي منذ إعلان لحظة السقوط، ودعوته إلى عدم القلق قائلاً إن "شؤون الدولة لن تتعطل"، خوفاً حقيقياً من إحداث توترات داخلية، هذه المرّة ليس بين المحافظين والإصلاحيين، لأن هذه المرحلة تعتبر السلطات الإيرانية أنها طوتها إلى غير رجعة بعد قمع الاحتجاجات المرتبطة بمقتل الفتاة مهسا أميني، بل إن خوف المرشد الأعلى أتى في سياق الصراع الداخل بين صقور المحافظين أنفسهم.
بالطبع، لن تتعطّل البلاد، ولكن ما كشف عنه "السقوط القاتل" لرئيسي قد يكون مفتعلاً داخلياً بحسب بعض التحليلات. فرئيسي لم يكن رئيساً فقط للجمهورية الإسلامية التي يحكمها مرشد أعلى يربط مفاصل السلطة بيده، بل كان مهيَّأً من السياسة الإيرانية لإدارة مرحلة ما بعد المرشد خامنئي الذي بلغ 90 عاماً، الأمر الذي أوجد عداءات في النواة الصلبة للنظام، ولا سيما رفض محبتي خامنئي نجل خامنئي الطامح هو إلى إدخال عامل التوريث على منصب المرشد الأعلى بعد موت والده.
لم يكن رئيسي رئيساً فقط لإيران التي يحكمها مرشد أعلى يربط مفاصل السلطة بيده، بل كان مُهيَّأً لإدارة مرحلة ما بعد المرشد خامنئي الذي بلغ 90 عاماً
سيعزّز صراع الأجنحة داخل الحزب الراديكالي الحاكم، حتماً، وصول الرئيس المتطرف ذي التوجّه العسكري للتعامل مع تحديات المرحلة المقبلة. لقد تمتّع رئيسي بقدرٍ عالٍ من دبلوماسية "المراوغة" الهادفة إلى تحقيق مبتغاها بعيداً عن لغة الحرب. لهذا تقاطعت رؤيته مع المواقف الأميركية على عدم توسيع حرب غزة، وحصرها ضمن قواعد الاشتباك، وما جولات وصولات وزير خارجيته حسين عبد اللهيان إلّا لتفعيل ذلك.
سقطت طائرة رئيسي في وقت تشهد الدبلوماسية الأميركية حراكاً عالياً في الشرق الأوسط، ولا سيما مع عودة العلاقات الأميركية – السعودية التي تشهد تطوراً ملحوظاً، عبّرت عنه زيارة مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جيك سولفيان الذي أجرى اجتماعات بنّاءة مع ولي عهد السعودية محمد بن سلمان وأطلع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عليها، وفي ضوء صعود تركيا إقليمياً، إذ رجّحت صحيفة Aydinilk التركية أن سبب إعلان واشنطن بدء مرحلة جديدة بعلاقاتها مع أنقرة يعود إلى رغبة مراكز صنع القرار الأميركية في جعل تركيا ثقلاً موازناً لواشنطن في مواجهة الصين وروسيا وإيران.
مهما كانت الفرضيات والسرديات التي سيحيكها النظام في إيران لتبرير سقوط الطائرة، إلا أنّها تصبّ في خانة واحدة هي أن رئيس إيران محسوب على جناح "قم" الخاضع بالمطلق لسلطة المرشد، والذي تتوقف رؤيته عند حدود الرئاسة فقط. فمن يدير البلاد اليوم هو محمد مخبر المجبور بالحرص على تطبيق المادة 131 من الدستور الإيراني، والتي تدعو في حال غياب الرئيس إلى إجراء انتخابات في غضون فترة 80 يوماً؛ ولكن هل الأرضية اليوم في إيران مستعدّة لخوض المعركة الانتخابية الرئاسية؟ أم حتمًا سيأتي رئيس سيكون مجبراً على السير بخطط لإسقاط التفاهمات السابقة مع الغرب، وتمتين العلاقة مع روسيا والصين؟