سد النهضة في مجلس الأمن .. المواقف والخيارات

12 يوليو 2021
+ الخط -

عقد مجلس الأمن يوم الخميس، 8 يوليو/ تموز الجاري، جلسة لبحث أزمة سد النهضة الإثيوبي، بطلب من دولتي المصبّ، مصر والسودان، بعد قرار إثيوبيا الملء الثاني منفردة، من دون الوصول إلى اتفاق ينظم عمليتي الملء والتشغيل. قدمت تونس، عضو مجلس الأمن من الدول غير الأعضاء الدائمين، مشروع قرارٍ بعودة مسار التفاوض والتوصل إلى اتفاق خلال ستة أشهر، مع تجنّب أي تصرّف أحادي إلى حين الوصول إلى اتفاق، بينما كشفت معظم الدول الأعضاء في مداخلاتها أنها غير مستشعرة وجود أزمة، تستوجب قيام مجلس الأمن بمهامه في حفظ السلام والأمن الدولي جهةً مرجعية، أو حتى وجود حاجة لدور فاعل في التحقيق والوساطة. وباستثناءاتٍ محدودة، منها موقف تونس وفيتنام، كانت مجمل المداخلات ترى موقف الأطراف الثلاثة على قدم المساواة، والدعوة إلى عودة المفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي، وإن قدّر بعضها "مشاغل السودان ومصر". ولكن إجمالاً، ليس هناك شواهد على موقف مساند لدولتي المصبّ، ولا تشخيص لنهج إثيوبيا اعتداءً، أو يحمل مخاطر لدولتي المصبّ، عبر تحكمها في مصدر المياه كما تريد. ومثل مخرجات الجلسة الأولى لمجلس الأمن، في يونيو/ حزيران 2020، اقترح أغلب المتحدثين إحالة الملف على الاتحاد الأفريقي، وهو ما يتوقع أن يكون التوصية النهائية في حال تداول القضية في جلساتٍ لاحقة. وبهذا، كانت الجلسة ترجمةً لمواقف دولية سابقة، ولكن في مشهد واحد مجمع، كاشفٍ لا يقبل اللبس، أو الارتهان لأوهام وتقديرات غير دقيقة، روّجها حول مساندة دولية لدولتي المصب.
وفي هذا السياق، لم يكن مستغرباً موقف الصين وروسيا المساند لإثيوبيا، وهما الدولتان الموسومتان صديقتين لمصر، ويرتبط موقفهما بسياستهما تجاه أفريقيا، خصوصاً الصين الساعية إلى الهيمنة على القارّة عبر مشروعاتٍ اقتصادية. وموقفهما يندرج ضمن اختباراتٍ حقيقيةٍ لمواقف دولية من دولتي المصب.

بدا أن إثيوبيا استطاعت ترويج رؤيتها، فتبنت أغلب الدول موقفها، مؤكدين دعوتهم إلى الحوار في البيت الأفريقي، ورفض دخول وسطاء جدد

الوقوف على الحقائق أمر مهم، ويكشف جانباً من زيفٍ واطمئنان لم يكن في محله، ولا متفهم حدود الدور، مثاله التغنّي بصداقة الدولتين للنظام المصري، وهو ما روجته وسائل إعلام مصرية، ومحللون مختصون بالشأن الأفريقي ضمن مؤسسات رسمية. وتشكل خطأ التقدير لديهم على افتقاد تحليل موضوعي، وارتهانٍ لأفكار ماضوية تخدم توجهاً دعائياً سلطوياً عن سلطةٍ معزّزة بدعم الخارج والداخل، فضلاً عن تكلس فكري وعقلية قديمة، والإعلاء من استخدام منهج التفاعلية الرمزية في تحليل العلاقات الدولية، وهو منهجٌ غير مناسب هنا. من خلاله، كانت قراءة الأفعال والسلوك والرموز المتبادلة بين ممثلي الدول خلال لقاءات رسمية من ترحيب أو هدايا وغيرها من رموز، مقياساً لمواقف سياسية للدول، تصلح للتحليل بشكل دائم وفي كل المواقف. والأمثلة هنا لا تحتاج إلى تذكير، ومليئة بالحديث عن تقدير واحترام وافر لرموز السلطة بين بلدين، توظف فيهما كل حركة لتبجيل ممثل الدولة.
وبالعودة إلى تحليل مواقف ممثلي الدول، بدا أن إثيوبيا استطاعت ترويج رؤيتها، فتبنت أغلب الدول موقفها، مؤكدين دعوتهم إلى الحوار في البيت الأفريقي، ورفض دخول وسطاء جدد. وإذ تعتبر إثيوبيا مجلس الأمن ليس مختصّاً بمناقشة القضية، بوصفها قضية تنموية وفنية، وإن نقاشها في المجلس مضيعة للوقت والموارد، بحسب تعبير وزير الري الإثيوبي، فإن مواقف الدول الأعضاء لم تختلف كثيراً، نصحوا بحل المشكلة بين الأطراف الثلاثة، من دون رغبة في تدخل. وعلى الرغم من مجمل ما جرى في الجلسة (ونتائجها) التي لن تخرج عن توصيةٍ بعودة المفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي، فإن هناك دروساً وفوائد، منها إعلان مصر والسودان موقفهما على الصعيد الأممي، تمهيداً إذا استطاعتا الإقدام على خطوات تصعيدية، ليست مقتصرة على عمل عسكري دفاعي. كذلك اختبرتا عملياً جهودهما على صعيد العلاقات الدولية، وتقييم نتائج الاتصالات المكثفة بالأطراف الدولية خلال عام مضى.

بعد أن وصلت الأزمة إلى ذروتها، بات واضحاً أنه لا يمكن اعتبار المفاوضات الطريق الوحيد لحل الأزمة

ومن فضائل الأزمات، توجيه طرق التفكير، وفهم الواقع كما هو من دون أوهام، ما يساهم في تقدير الاحتياجات، وتحديد نقاط القوة والضعف، والبحث عن حلولٍ وطرقٍ جديدة، وطرح أسئلة أساسية بشأن البدائل في الوقت الراهن. وكان كاشفاً أيضاً أن التعويل على المواقف الدولية، من دون اتخاذ مواقف تخصّ أصحاب المشكلة، درب من الوهم، فلا يمكن أن تطلب من الآخرين مساعدتك وأنت مقيدٌ في استخدام الخيارات أو حسمها، ولا إمكانية للتأثير الدبلوماسي من دون امتلاك موارد (ومصادر) القوة الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية وحسن إدارتها.
تؤكد إثيوبيا بنهجها استمرار المواجهة والتحدّي لدولتي المصبّ، مراوغة لكسب الوقت، ممارسةً مزيداً من الضغوط، لمضاعفة نقاط القوة. وبعد انتهاء أعمال بناء السد، وبداية الملء الثاني، أصبح موقفها وازناً، وانعكس ذلك في كلمتها في مجلس الأمن. وكانت أغلب المواقف، خلال الجلسة، ليست في مجال إبداء انحياز لدولتي المصبّ، على الرغم من عدالة القضية، وحجم الضرر المترتب عن فرض إثيوبيا سياسة الأمر الواقع، وتوجّهها إلى التحكّم في مياه النيل، ولا اكتراث بتهديد للأمن الدولي لا شواهد عليه، ولا اهتمام بالقدر الذي يدفعهم إلى لعب دور فاعل في أعمال التحقيق والوساطة.
اليوم، بعد أن وصلت الأزمة إلى ذروتها، بات واضحاً أنه لا يمكن اعتبار المفاوضات الطريق الوحيد لحل الأزمة، وإن كانت المفاوضات المحطة الأخيرة لعقد اتفاقٍ يحفظ حقوق الدول الأطراف. ومن ضمن الاستنتاجات أن من المستبعد أن تتخذ أي أطرافٍ دولية موقفاً مغايراً طالما بقي الحل الوحيد الارتهان لتفاوض يفتقد عوامل قوة وضغط متوازنة ومصالح، وإذا استمرّت دولتا المصبّ في محدودية استخدام إمكاناتهما في التأثير، فلا تقدم ممكن الحدوث في الملف.

الأزمة المعقدة تصعّب خيارات الفعل، لكن الأزمة عميقة، ومصر مهدّدة بشكل أكبر في مواردها المالية وحياة شعبها

طرحت مصر مرات عديدة استعدادها للمشاركة في بناء السد بمساهماتٍ ماليةٍ وفنية، إلا أن إثيوبيا رفضت ذلك، ما يعني أنها لا تستهدف بناء سد يوفر لها الكهرباء وحسب، بل تسعى إلى قيادة القارّة، والتحكم في مورد المياه، معتبرة النهر مِلكاً خالصاً لها، تستغله وتتاجر فيه، ومن خلاله توسّع نفوذها وتقوي علاقتها بأطرافٍ خارج أفريقيا، وسد النهضة يمثل مرتكزاً لطموح يعتمد على بنية الاقتصاد، ولا اعتبارات هنا بالإضرار بالغير. واليوم، تلحق إثيوبيا الضرر بمصالح مصر والسودان المائية. وغداً، قد تعتدي على أراضي دول مجاورة، كما حدث من اعتداء على أرضي القشفة السودانية (12 ألف كيلو مربع) أو تجديد لصراعاتٍ قديمة في القرن الأفريقي.
وأخيراً، استطاعت مصر والسودان في مجلس الأمن التعبير عن الموقف: وصول التفاوض الذي يرعاه الاتحاد الأفريقي إلى طريقٍ مسدود، وقلقهما من خطورة الوضع الحالي، والمترتبة عنه أضرار جسيمة، تعرّض الملايين للخطر، وإيضاح تعنّت إثيوبيا بوصفه موقفاً سياسياً، لا يرتبط بأهدافٍ تنموية. وبوضوح، أعلنت مصر أنه، في حال تعرّضها للخطر، لا حلول أمامها سوى الدفاع عن نفسها. وبقي، بعد الخطاب والمرافعة التي لاقت إشادة في أوساط نخب، أن يترجم الخطاب إلى صيغ من الفعل تنقذ الموقف. صحيحٌ أن الأزمة المعقدة تصعّب خيارات الفعل، لكن الأزمة عميقة، ومصر مهدّدة بشكل أكبر في مواردها المالية وحياة شعبها.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".