روسيا تنقضّ على المصالح الفرنسية
بعد الانقلاب العسكري في الـ26 من الشهر الماضي (يوليو/ تموز) في النيجر، جرت محاولة انقلابية بداية شهر أغسطس/ آب الجاري في سيراليون، وهي من دول الجنوب الغربي الأفريقي ... تعتبر الانقلابات في أفريقيا مسلسلا متصلا تتوالى حلقاتُه بسرعة، حتى إن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس وصف الحالة الانقلابية التي تعيشها القارّة باللعنة، في أعقاب انقلاب في بوركينا فاسو مطلع العام 2022. تؤكّد الإحصاءات كثرة الحركات العسكرية التي تستهدف السلطة في أفريقيا، فقد جرى 14 انقلابا أو محاولة انقلاب منذ أغسطس/ آب 2020، أي بمعدّل انقلاب كل مائة يوم تقريبا، يعكس الأمر اضطرابا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا شديدا في منطقةٍ ينشط فيها التطرّف، ويجد له بيئة آمنة، فيتمدّد ويتقلص بحسب الظروف، من دون أي أمل في التخلّص منه نهائيا، ويلعب التمايز الإثني في المنطقة دورا رئيسيا في تحفيز القادة العسكريين لقيادة الانقلابات أو المشاركة فيها، وذلك كله وسط فوضى اقتصادية عارمة تفشل فيها السلطات، منتخبة كانت أم انقلابية، في تنشيط الاقتصاد، أو تحقيق مقدار من التنمية، رغم أن هذه العوامل حاسمة في مسار الشكل السياسي لبعض دول أفريقيا في الساحل الغربي والوسط، إلا أن التداخل الروسي قد يكون عاملا جديدا آخر في هذه التغيرات، وقد جرى تلمس وجود الروس بقوة عبر مجموعة فاغنر.
دخلت "فاغنر" إلى أفريقيا عبر بوّابة تقديم الاستشارات الأمنية والدعم شبه العسكري، وحاولت أن تقوي علاقاتها في أوساط الجيش وجنرالاته، ومدّدت التعاون معهم بما يتجاوز الجانب العسكري، وعرضت خدماتها على القادة في حماية أنظمتهم عبر لعب دورٍ في مواجهة المتمرّدين الذين يهدّدون بهجمات عسكرية، وساهمت، في حالات أخرى، بصد الجماعات المتشدّدة كتنظيم الدولة الإسلامية.. كانت "فاغنر" حاضرة في أفريقيا الوسطى عبر تدريب القوات المسلحة النظامية، وقدّمت مساعدات عسكرية لمالي متمثلة بطائرات عسكرية ومراقبة، وقد جعل بوتين منظمة فاغنر تقوم بكل العمل، لتبدو موسكو بعيدة عن هذا النشاط، من دون أن تكون قادرة على التخفّي بشكل كامل، فقد بدأت قرائن كثيرة بالظهور، حتى قبل أن تبدأ الحرب الروسية في أوكرانيا، وعرف الجميع بمن فيهم من يتلقّى المساعدة بأنّ "فاغنر" مجرّد هيئة تتبع مباشرة للرئيس الروسي، وما تقوم به هذه المنظمة في الساحة الأفريقية خالصا لدعم مكانة روسيا وتعزيز دورها.
مع الانقلاب أخيرا في النيجر، ظهرت مرحلة جديدة من مراحل التغلغل الروسي في أفريقيا، عندما أصرّ المجلس العسكري الذي أطاح رئيس النيجر محمد بازوم على المضي في القبض على السلطة، وظهرت أعلام روسية في أوائل أيام الانقلاب، ثم كانت فرنسا أول دولة أوروبية تهرع إلى إجلاء رعاياها من النيجر، رغم أن لفرنسا علاقات مميزة مع هذه البلد الذي كان جزءا من خطط الرئيس الفرنسي، ماكرون، لدول الوسط والساحل الغربي الأفريقي، وكان بازوم بالذات في زيارة لفرنسا قبل أسبوعين، وكان المجلس العسكري قد سارع بتوجيه النقد إلى فرنسا، وقبل أيام، ألغى مجموعة من الاتفاقيات العسكرية المعقودة معها، وسحب سفيره من باريس... يبدو الأمر وكأن القوى الجديدة في النيجر تريد أن تستعيض عن الوجود الفرنسي المكثّف بآخر روسي. وما يوحي بأن الأمر جائحةٌ تعصف بدول الساحل والوسط الأفريقي أن مالي، وهي من المستعمرات الفرنسية السابقة، قد تخلت عن استخدام الفرنسية لغةً رسمية.
ترغب روسيا بتوسيع المواجهة أو نقلها إلى أفريقيا، وهي تعرف أن الغرب لن يسلِّم بسهولة، خصوصا أن المناخ السياسي في أفريقيا شديد التبدّل، وتواتر الانقلابات سريع، ما يتيح لفرنسا الفرصة لاستعادة موقعها مرّة جديدة، رغم أنّ الحالة الراهنة نتجت عن تساقط جماعي وسريع لمجموعة من الدول الأفريقية أصبحت تديرها مجالس عسكرية، وهو النظام الذي ترغب روسيا برؤيته وتجيد التعامل معه حتى الانقلاب المقبل.