روبرت فيسك الذي يُربكنا

03 نوفمبر 2020
+ الخط -

أما روبرت فيسك فهو الصحافي البريطاني (الإيرلندي) الشهير، والذي أذيع نبأ وفاته في دبلن أمس الإثنين عن 74 عاما، ولكن من نحن الذين "يُربكنا" المراسل والمعلق المخضرم؟ نحن الذين نناهض نظام الفتك الحاكم في دمشق، ونعارض كل سلطةٍ ترتكب الاستبداد ومصادرة حقوق الشعوب في الحياة والحرية والكرامة والعدالة. هذه الإشارة ضرورية، لأن مرثياتٍ سخيةً (مستحقّة) حظي بها فيسك من عربٍ كثيرين، سيما فلسطينيين، جاءت على مواقفه العديدة، منذ أكثر من أربعين عاما، انتصر فيها للحق الفلسطيني، وناوأ كل سلطات الاستبداد العربية، وانتقد السياسات الأميركية، وأشهر نقدَه الشديد إسرائيل، وأضاء على جرائمها. وتاليا، وقف مع انتفاضات الشعوب العربية، وكتب بسخطٍ ظاهرٍ ضد دكتاتورية عبد الفتاح السيسي، وضد دونالد ترامب وصفقة القرن. ومدهشٌ أنك تكاد لا تجد واقعةً عربيةً، لم يتابعها روبرت فيسك من موقعها في الميدان نفسه، أو لم يعلق عليها بالتحليل وطرح الرأي والموقف. ومن موقعنا، نحن المُشار إلينا أعلاه، في ضفة الديمقراطية وحريات الشعوب والحقوق العربية ومخاصمة الإمبرياليات الأميركية والغربية ومناهضة الدكتاتوريات، لا نملك إلا الإعجاب الكبير بصاحبنا هذا، واعتباره صوتا شجاعا وجريئا لقضايانا في الصحافة العالمية. ولأنه كذلك، نجدنا حريصين على تمييز حالنا هذا عن آخرين غيرنا، استذكروه، بمناسبة رحيله، بالتأشير إلى مواقفه الفلسطينية خصوصا، معطوفةً إليها مواقفه السورية التي ظهر فيها يكتب رواية النظام في غير واقعةٍ وموقعة. نحن لسنا كما هؤلاء. وأن نعترف بأن صاحب "ويلات وطن" يُربكنا في كتاباته بشأن اللحظة السورية الراهنة، فذلك يعني أن ثمّة "نقطة نظام" تحتاج إلى جلاء لازم، في هذا الأمر.

أول القول هنا إن روبرت فيسك زار سورية مرتين أو ثلاثا (أو أكثر، لا أعرف)، منذ الانتفاضة (سمّاها كذلك)، أولاها بعيْد أسابيع من شرارة درعا، وكتب في صحيفته الإندبندت (ظل مراسلا ميدانيا لها ومعلقا فيها منذ انتقل إليها في 1989 بعد سنواتٍ من العمل في "التايمز")، إن السوريين يكرهون النظام، وأتى على العُسف الذي يغالبونه تحت حكم الأسد، وعلى تعذيبٍ ذاقه بريئون في أقبية أجهزة الأمن. وكتب متذكّرا تغطيتَه مذبحة حماه المريعة في فبراير/ شباط 1982، فقد كان من أوائل الصحافيين الأجانب الذين دخلوا المدينة المحاصرة، ونقلوا إلى العالم نبأ المقتلة (ليس وحده، وليس صحيحا أنه كان يناصر حافظ الأسد، فأجاز له تغطيته الميدانية). لم تجامل لغتُه حكم بشار الأسد، وبدا في حسٍّ متعاطفٍ مع الشعب السوري. أما في زياراته التالية، سيما في 2016، لمّا "يسّرت" له السلطة دخول الغوطة الشرقية، لتغطية خروج مسلحين من تنظيماتٍ إسلاميةٍ متطرّفة، فقد كتب مشاهداته، وكيف رأى هؤلاء، بنبرةٍ غيّبت الناس، والأهالي، والشهود على جريمة الحصار، فبدا ناقلا رواية النظام، وإنما بلغته التي أوحت تقريريّتُها بحيادٍ لم تسعفها مهارة المعلق الحاذق في التعمية على موقفٍ لا يؤشّر إلى جسامة أحوال السوريين تحت حكم نظام الأسد. وهو الأمر الذي تبدّى في حيادِه غير الموفّق بشأن هجوم جيش النظام بالسلاح الكيميائي على الغوطة في صيف 2013، فلم يكن عسيرا على قارئه أن يلحظ عدم تشكيكه برواية النظام، لمّا أكّد ذلك الهجوم، وإنما من دون استخدام غاز السارين، ولم يجهد الصحافي المخضرم نفسَه بتقصٍّ أوفى للواقعة. وكتب أنه فيما النظام غير مسؤولٍ عن هجمات بالسلاح المحرّم على الغوطة، فإن قواته ارتكبت جرائم حرب عديدة على مدى العامين الماضيين (قبل 2013)، من تعذيبٍ ومذابح وقصف أهداف مدنية. (لم يفعل كما سيمور هيرش الذي كتب إن مسلحين معارضين للنظام هم من ارتكبوا المذبحة). وتاليا، جال روبرت فيسك في إدلب وحلب، وكتب مشاهداتٍ جديرةً بقراءتها بعينٍ غير محكومةٍ بنظرةٍ مسبقةٍ إليه، فقد كانت تلحّ على أن هزيمة "داعش" لم تتحقق بعد. 

لا يليق اتهام روبرت فيسك بأنه كان يوالي بشار الأسد، وبأن المتحدّثة باسم الأخير، بثينة شعبان، استخدمته في ترويج مقولات النظام. وليس صحيحا أنه مالأ حافظ الأسد، وأنه دافع في أي يوم عن النظام في دمشق. إنما هي يساريته الأوروبية، كما غيره من معلقين وصحافيين أوروبيين جيدين، احتلّت مداركهم المخاوف من إرهاب مسلحين إسلاميين (لو نقرأ وصف فيسك لحى أنفار من هؤلاء وثيابهم وأحذيتهم..)، وفي غياب مروياتٍ قويةٍ نشطةٍ متماسكةٍ موثقةٍ من المعارضات السورية. وإلى تلك اليسارية، ثمّة التقصير المهني الذي يجوز لنا حديثٌ عنه، نحن الأغرار في الصحافة قياسا لخبرة فيسك وتجربته المثيرة والطويلة في ميادين حروبٍ بلا عدد (نال جائزة أحسن صحافي بريطاني سبع مرات)، في تنويع مصادر معلوماته، وفي عزوفه عن اللقاء مع ناشطين وضحايا سوريين. 

إذن، لسنا مع روبرت فيسك في المقطع السوري الراهن، مع وجوب نزع التباساتٍ رماه بها،  بخفّةٍ ظاهرةٍ، أصدقاء سوريون حانقون. وإنما مع روبرت فيسك الذي رأى الديمقراطية في مصر ماتت في قتل محمد مرسي في المحكمة، وانحاز لهتاف المصريين في ميدان التحرير لمّا كان بينهم في ثورة يناير، والذي كان ينتقد صحافيي الفنادق، الكسالى، فلم يغب عن حروبٍ في العراق، وعن "عشرية" الجزائر، وعن الحرب العدوانية على غزة في 2008، ولا عن حرب البوسنة، وقبلها وبعدها حروب أفغانستان (التقى فيها أسامة بن لادن). أما لبنان، فكان موضوعه الأثير سنوات طويلة..

لنا أن نستلهم من الزميل الراحل، روبرت فيسك، قوله إن مهمّة الصحافي تحدّي السلطة. وقد فعل هذا كثيرا، قبل إرباكه لنا في سورية وبعده.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.