رئيس أميركي بأربعة تريليونات
خلال ما يقرب من عام عايشت كتابين (ترجمت أحدهما وشاركت في ترجمة الثاني)، وكلاهما غيّر الكثير في فهمي لما أسفرت عنه الانتخابات الأميركية: "رأسمالية مصاصي الدماء" لعالم الاجتماع البريطاني بول كينيدي (2017)، و"علم نفس وادي السيليكون" لكاتي كوك. وما تضمنه الكتابان من حقائق عن النيوليبرالية كان في قلب معركة المرشحيْن ترامب ويايدن، فمنذ الأزمة المالية العالمية (2008) وقضية مستقبل النيولبيرالية تلحّ من خلال أطروحات نقدية امتدت عواصفها لتشمل إعادة النظر في الرأسمالية والفردية والتمحور حول الربح، والإيمان "الأعمى" بقدرة السوق على تصحيح نفسها.
وقد كان دونالد ترامب من الداعمين الأكثر شراسة لهذا التصور الذي تسببت عوامل عديدة في انتشاره انتشار النار في الهشيم منذ أواخر الثمانينيات تقريبًا. وقد عدّ آلان غرينسبان الرئيس "المزمن" لمجلس محافظين نظام الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (1987 - 2006) أحد أكبر داعميه، وبقدر ما حلّق عاليًا في سماء الفكر الاقتصادي، بقدر ما خسر حماس الجميع بعد الأزمة. ومن المفارقات أن ترامب تخلَّى عن أفكار غرينسبان في العلاقات الاقتصادية الدولية، مستخدمًا سياسات حمائية "غاشمة"، بقدر ما تمسّك بها بحماس شديد في سياساته الضريبية وموقفه من قضية العدالة الاجتماعية.
الشركات الأكبر في سيليكون فالي أصبح إنفاقها على اللوبيات في العاصمة واشنطن ضعف حجم ما تنفقه "وول ستريت" في نيويورك
كتاب عالم الاجتماع البريطاني بول كينيدي أقرب إلى نظرة الطائر، وحشد فيه مؤلفه إحصاءاتٍ مرعبةٍ عن حجم تراكم الثورة في أعلى الهرم الاجتماعي/ الاقتصادي، في دول عديدة، وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية، والزيادة غير المسبوقة في الوزن النسبي للقطاع المالي في اقتصادات وطنية عديدة، والأرقام التي لا تتوقف عن الارتفاع منذ سنوات في أرصدة الأفراد الأكثر غنىً والشركات الأكثر شهرة في بنوك الملاذات الضريبية. والاستنتاج الأهم في "رأسمالية مصّاصي الدماء" أن الرأسمالية نفسها ستفقد قوتها الدافعة في حال استمر التراكم الضخم للثروة بالشكل القائم الآن، مترافقًا مع انخفاض الرواتب كظاهرة عالمية، فما يحدث يهدّد الرأسمالية بأن تصبح في النهاية آلات إنتاج من دون مستهلكين!
تتحدّث الأكاديمية البريطانية، كاتي كوك، في كتابها الممتع العميق السلس، حديث "ليالي ألف ليلة وليلة" عن شركات وادي السيليكون، وبالأساس: أمازون وغوغل والشركات المالكة مواقع السوشيال ميديا. والأكثر غرائبية في كتابها حجم الثروات التي استطاع الخمسة الكبار تحقيقها في سنوات معدودة، ثم التأثير السياسي الذي لا تشكل فضيحة كامبردج أناليتيكا إلا صفحة واحدة من كتابها الكبير. وتحذّر الكاتبة أيضًا من تأثير السيوشيال ميديا والذي أصبح خطرًا على الديمقراطية. ومن الحقائق المهمة في الكتاب أن الشركات الأكبر في سيليكون فالي (5 شركات) أصبح إنفاقها على اللوبيات في العاصمة واشنطن ضعف حجم ما تنفقه "وول ستريت" في نيويورك.
وفي إطار حالة من الغموض القانوني/ السياسي، فيما يتصل بعملها، أصبحت هذه الشركات خلال سنوات معدودة "الأكثر ثراءً" في العالم. وخلال حملته، تعهد الرئيس جو بايدن بفرض ضريبة ثروة على الأكثر غنى في الولايات المتحدة، بعد رفضٍ متكرّر من ترامب الذي منح تخفيضات ضريبية غريبة للأكثر غنى. وفي إطار ذلك، تعهد الرئيس المنتخب جو بايدن بجمع ما يزيد قليلاً على أربعة تريليونات دولار من هذه الضريبة. وتعهد بايدن أيضًا، بعد تردّد جمهوري وديمقراطي سنوات، بفرض ضرائب على شركات وادي السيليكون. وستكون للتوجه الاقتصادي/ الاجتماعي الذي يتبناه بايدن تأثيرات اقتصادية كبيرة، ربما أدت إلى إعادة الاعتبار إلى الطبقة الوسطى التي تحدّث بوضوح إنه يمثلها.
ومن المفارقات المؤلمة أن ينتخب ما يزيد على 70 مليونًا من الأميركيين ترامب، في بلد تبلغ مدّخرات مواطنيه أكثر من 90 تريليون دولار، نجد دولًا عربية تعاني شعوبها فقرًا شديدًا وتفاوتًا في الثروة لا نظير له في أكثر النظم الرأسمالية ليبرالية، تهرول إلى تنفيذ إجراءاتٍ تتضاءل بجانبها ممارسات ترامب.
الفاتورة الحقيقية لانتخاب بايدن لا تساوي تكلفة حملته الانتخابية، بل تساوي 4 تريليونات دولار!