رئيسة وزراء فنلندا والديمقراطية نهجاً مجتمعياً
قد يبدو للوهلة الأولى أنّ إشهار مقطعي فيديو لرئيسة وزراء فنلندا سانا مارين تظهر فيهما ترقص في سهرة مع أصدقائها، لا يعدو أن يكون مادّة للفضول والثرثرة، على عادة الصحف والمجلات التي تلاحق المشاهير، وتثير زوابع من الغبار بطرحها هذه المواد الفضولية، لكن الأمر أرفع من هذا بالتأكيد، إنّه يدفع إلى الغوص في صميم الديمقراطية، مفهوماً وأداء وثقافة مجتمعية. ويدفع أيضاً أيّ فردٍ يريد أن يفهم، ينتمي إلى منطقتنا البائسة التي تكابد وتعاني كلّ أشكال القهر والظلم والحروب والخراب، إلى سؤال المصير في بلاده، وما دور الديمقراطية في صنعه، وما المسافة التي تفصل بينهما.
"رقصتُ وغنّيتُ واحتفلتُ، أشياء قانونية تماماً. ولم أكن في موقف رأيت فيه آخرين يتعاطون المخدرات"، هذا ما قالته رئيسة وزراء فنلندا سانا مارين بعد نشر مقطعي الفيديو، اللذين التقطهما أشخاصٌ من المعارضة في البلاد وحرّكوا قضية ضدّها، لكنّها تدافع عن نفسها، تقول إنّ لها حياتها الأسرية وحياتها العملية ولديها وقت فراغ تقضيه مع أصدقائها: "أنا إلى حدّ كبير مثل كثيرين في سنّي" وهي الشابة ذات الـ36 عاماً، استلمت منصبها رئيسة للوزراء في بلادها في 2019، كانت قبلها وزيرة للنقل، واعتبرت أصغر رئيس/ة وزراء في العالم، فهل يقتضي المنصب الذي رُشّحت إليه ونالت التزكية المطلوبة أن تقمع الجانب الروحي لديها وتقفز فوق سنوات عمرها؟ أم لا بأس أن تعيش عمرها الطبيعي في حياتها الخاصة، شرط ألّا تظهر للعلن؟ وهل يُحكم على الأمور بنتائجها أم بما يظهر من السلوك الشخصي للفرد في هذا الموقع؟ دعتها زعيمة حزب المعارضة ريكا بيورا وبعض السياسيين في الائتلاف الحكومي إلى إجراء اختبار طوعي للكشف عن المخدّرات لديها، ولم تعارض سانا مارين هذا الإجراء، الذي تمّ، ويُنتظر أن تظهر نتيجته بعد أسبوع، قائلة إنّها حتى في أيام مراهقتها لم تتعاطَ أي نوع من المخدّرات، وهي تجري الاختبار طواعية من أجل تهدئة المخاوف كما صرّحت، وكالعادة لدى الشعوب غالباً، الميل نحو متابعة التفاصيل والتفتيش في ثنايا الصورة، ادّعى بعضهم أنّ نجم البوب الفنلندي أوسيفيرتا، الذي ظهرت ترقص معه في أحد المقطعين، كان يقبّلها من عنقها، لكنّها دافعت أيضاً نافية ذلك بقولها: "إذا قبّلني شخص ما على خدّي، فلا يوجد شيء غير لائق لا يمكنني التعامل معه أو إخبار زوجي به".
من دون الأنشطة والإنجاز الثقافي والفكري، ما كان للأنظمة الديمقراطية أن تنجح وتشكّل دولًا مستقرّة
في الثقافة الديمقراطية، المسؤول واحد من الشعب، من الناس العاديين، لا يفترق عنهم ولا يفصل بينهم ستار مهما كانت سماكته أو شفافيته، ليس منصبه ملكاً شخصيّاً أو إرثاً يخوّله القفز فوق القوانين أو الدساتير أو تطويعها لمصلحته وأهوائه، وليس فوق السؤال والمحاسبة، لكن من أين تبدأ محاسبته؟ كما أنّه ليس ملزماً بتقديم نفسه على غير ما هو عليه، عمله وطرق إدارته والنتائج التي يحققها في أثناء توليه المنصب هي المعيار والحكم، وإلّا هناك سلطة أعلى هي من يحاسب ويصحّح الاعوجاج إن وجد، إنّه الشعب، وهذا أمر لا يولد في لحظة، أو ينبثق من دون مقدّمات، إنّه نتيجة تجارب تاريخية وعمل على ترسيخ الآليات الديمقراطية، بالتوازي مع تمكين الثقافة الديمقراطية. وفي أولى المراتب التي أسّست لهذه الثقافة يحضر دور المفكرين والعلماء والأدباء أيضاً في اختراق الوعي الجمعي وإنارته على الواقع والماضي المتوارث، ثم غرس قيم جديدة فيه، تحاكي تطلعاته نحو صياغة حياة كريمة، كان مشواراً مواراً بالحراك الفكري والسياسي في سبيل القطع مع الفكر القروسطي وتحرير السياسة من سطوة رجال الدين والغيبيات والقداسة، وإرجاعها إلى ميدانها الواقعي والدنيوي ونواظمها الوضعية، هي نتاج حركاتٍ ثقافية كبرى جعلت من القيم السياسية الحديثة والوعي السياسي الحديث ممكنًا، ومن دون هذه الأنشطة والإنجاز الثقافي والفكري، ما كان للأنظمة الديمقراطية أن تنجح وتشكّل دولًا مستقرّة، كما هي عليه الآن، وما كان لنظام حكم ديمقراطي أن يستقر من دون تبنٍّ مجتمعي واستيعابٍ للنهج الديمقراطي، الذي يصوّب، في النهاية، السياسة ويوجّهها في الطريق السليم لصناعة القرار، الذي هو في النهاية ملك للشعب.
هذا ما يحمي الديمقراطية في تمثّلها الشعبي وأدائها السياسي. لذلك، قضية رئيسة الوزراء الفنلندية مطروحة على طاولة التقويم الشعبي، لا هي تستطيع إشاحة وجهها عنها والاستمرار في أدائها من دون الاكتراث بالأصوات الداعية إلى السؤال، ولا هذه الأصوات يمكنها اتخاذ القرار الذي ينسجم مع رؤيتها، وتطلّعها إلى عزلها عن طريق تسقّط أخبار عن سلوكيات توظّفها لصالحها في صراعها السياسي، وعزل الرئيسة عن منصبها، بمفردها، فالديمقراطية، بقدر ما هي التزام بدستور وقوانين وضعها الشعب بالتشارك والتوافق، هي أيضاً وعي اجتماعي ومسؤولية اجتماعية ساهمت في وضع الدستور والقوانين.
المسؤول في الأنظمة الشمولية والمستبدّة يمارس حياته بشكل غير مشروط
أين المسؤول في بلداننا؟ بل وأين الحاكم الذي يحكم بالمطلق، بالرغم من الدساتير والقوانين التي تحمل في موادها قيماً تبدو كما لو أنها تعزّز الديمقراطية، بينما لا تعدو أن تكون عجينة رخوة في يد الحاكم يشكّلها كما يحلو له، وكما تتطلّب مصالحه، بالقوة والبطش وقصّ أجنحة من يحاول التحليق في سماء الحريات والفكر، وكمّ أفواه أصحاب الرأي المخالف، وقطع ألسنة من ينتقدون أداءه وحكمه؟ المسؤول في الأنظمة الشمولية والمستبدّة يمارس حياته بشكل غير مشروط، وكلما علا في موقعه ومنصبه، فإن ارتكاباته الضاربة عرض الحائط بكل القيم والمعايير، تصبح في الظل، لكنّه لا يُبالي مهما رشح منها إلى العلن، فهو يعرف أنّ الحشود التي يرأسها محكومة ببطشِه وقوته، لا يمكنها محاسبته أو حتى سؤاله، وهو حريصٌ على رفع جدار من الرهبة والخوف بينه وبين مرؤوسيه ومحكوميه، معزّزاً هذه الصورة بغرس وتمكين مفهوم الطاعة باعتبارها أحد أهم روافع الحياة وأقدسها، معوّلاً على طبقةٍ من رجال الدين يقومون بهذا الدور، طاعة الحاكم من طاعة الله، والحاكم اشتغل على هذا المفهوم، وتمسّك أمام رعيته بشعائر إيمانه صاعداً درجات سلم القداسة.
عندما يُبنى للديمقراطية من القاعدة، بزرع قيمها ومبادئها اجتماعيّاً، يصبح الأفراد مدركين دورهم ومسؤوليتهم، وتتعزّز ثقتهم بأنفسهم، وهذا انعكاس للعلاقة بين الدولة والمجتمع، فبقدر ما تكون هذه العلاقة تشاركية وقائمة على فهم الأدوار وممارستها، تكون الآليات الديمقراطية أكثر ثباتاً وفاعلية، ما يحتاج مشواراً طويلاً من أجل إنجاز هذا المشروع، يحتاج إلى جهد كبير في تفتيت الشخصية الامتثالية الغالبة على أفراد شعوبنا، بقدر ما جرى الاشتغال عليها عبر التاريخ، حتى صار الزعيم الديكتاتور يمثّل حاجة نفسية، وفي أسطع صورة كُرّست له: مستبدّ عادل، كأنما هو منتهى الطموح الذي يحق لنا أن نرنو إليه، باعتبار حياة الشعب أو الأمة لا تستقيم بلا مستبدّ. نحتاج إلى قطيعةٍ مع الماضي بعد الانفلات من أسره وقيود قيمه التي ما زلنا نعيش وفقها في أزمنة، ليست قروسطية فقط، بل تعود قروناً طويلة إلى الخلف، وما هي الانتكاسات والمآلات التراجيدية التي آلت إليها موجات ربيعنا العربي، وما أنتجت من هياكل سياسية جديدة، غير دليل دامغ وبرهان واضح على ما نحتاج.