"دير ياسين": الموت أو الرحيل
مضت 77 عاماً على مذبحة دير ياسين. ففي التاسع من إبريل/ نيسان من العام 1948 نفّذت عصابات أرغون برئاسة مناحيم بيغن، وشتيرن التي ترأّسها إسحق شامير، بدعم من "بالماخ" و"هاغاناه"، مذبحةً لتهجير سكان القرية، وبثّ الرعب في القرى والمدن الأخرى، خلّفت نحو 254 شهيداً. لم تكن الأولى، ولم تصبح الأخيرة، فهناك في الوقت نفسه مئات القرى دُمّرت وسُوّيت منازلها بالأرض، ووزّعت أراضيها ومزارعها بين سكّان المستعمرات اليهودية التي أنشئت على أنقاضها، والمجازر مستمرّة بالتوازي مع الإمعان في مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، وأكبرها حرب إسرائيل منذ ستة أشهر، إذ ترتكب كلّ ساعة مجزرةً في غزّة أمام مرأى العالم الذي تغيّر كثيراً منذ تلك المجزرة. وإن يمكن القول إنّ مجزرة دير ياسين أسّست لاستراتيجيةٍ طويلة الأمد، وأصبحت رمزاً لـ "ترانسفير" خطّطت له الحركة الصهيونية، وعنواناً لمشروع استعماري استيطاني عنوانه "الموت أو الرحيل".
بعد صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، اتّخذت القيادة الصهيونية قراراً بوضع خطّة التطهير العرقي، التي تنفذها إسرائيل إلى اليوم بكلّ الوسائل والأساليب لمحو الوجود الفلسطيني. كان المندوب السامي البريطاني على مسافة قصيرة من المجزرة، لأنّ حكومة الانتداب البريطاني كانت تسيطر على فلسطين، لكنها لم تتدخّل لمنع المجزرة وحماية المدنيين، رغم أنّ من واجب قواتها ذلك. بل حتى رئيس وزراء إسرائيل حينها، ديفيد بن غوريون، حمّل، ويا للعجب! الحكومة البريطانية والمندوب السامي البريطاني والجيش البريطاني المسؤولية عن إبادة قرية دير ياسين بأسرها، لأنّها قصّرت في توفير الحماية للمدنيين الفلسطينيين، بينما تقتل إسرائيل المدنيين منذ بواكير نشوئها، بعد أن أُعْلِنَتْ "دولة"، وهي قوة محتلّة.
لم تمارس القرية، التي بلغ عدد ساكنيها في ذلك الوقت نحو 750 فرداً، أيّ تهديد في أي يوم للمستعمرات اليهودية القريبة منها، بل كانت قد وقّعت مع مستعمرة جفعات شاؤول معاهدة عدم اعتداء، خلافاً لموقف الهيئة العربية العليا في القدس، لكنّ هذا لم يَحْمِها من الإبادة الجماعية، ومن ذبح الأطفال والنساء والشيوخ والرجال، بل اقتادت العصابات المعتدية خمسة وعشرين فلسطينياً أسرى في شاحنات مرّت عبر حي نحلئوت باتجاه معسكر يهودا، وبصق جمهور من اليهود على الأسرى وقذفهم بالحجارة، مع شتمهم بأقذع العبارات، ومن ثم قتلوا جميعهم.
لم تكفّ إسرائيل منذ إعلانها دولة عن قتل شعب بكامله، وتهجيره واحتلال أراضيه والسطو على ممتلكاته
أما رئيس عصابة أرغون الإرهابية، ورمز "أبطالهم"، مناحيم بيغن، فقد قال في ليلة المذبحة: "احتلال دير ياسين إنجاز رائع"، ووجّه رسالة إلى القادة الذين نفّذوا المجزرة الجماعية وأبادوا القرية العربية عن بكرة أبيها، وفيها: "تقبّلوا تهانينا على هذا النصر المدهش، انقلوا إلى الجميع أفراداً وقادةً أننا نصافحهم فخورين بروحهم القتالية الغازية التي صنعت التاريخ في أرض إسرائيل وإلى النصر. كما في دير ياسين، كذلك في غيرها، سنقتحم ونبيد العدوّ، ربنا! ربنا لقد اخترتنا للفتح!".
كان مندوب الصليب الأحمر في القدس، الفرنسي جاك دورينيه، أوّل من دخل دير ياسين بعد إبادة سكان القرية، بعد أن طلب منه السكان العرب في القدس، في اليوم التالي للمجزرة، التوجّه إلى القرية ومعاينة الواقع. اتصل دورينيه بالوكالة اليهودية وبقيادة "هاغاناه" فأنكروا علمهم بالمجزرة، بل نصحوه بعدم التدخل كي "لا يقضي بذلك على مهمته الإنسانية ويسيء إليها"، ورفضت تقديم الحماية له إذا ما قرّر دخول القرية. هذا ما تمارسه إسرائيل اليوم في حربها على غزّة، بكلّ ما راكمت وطوّرت، منذ إعلانها، من تجارب وخبرات، وعنجهية غذّاها إفلاتها من العقاب على مر السنوات، والممارسات الوحشية والاعتداء، فهي لم توفّر مؤسسة دولية تعمل في المجال الإنساني إلّا وهاجمتها ودمّرت مقارّها، وقتلت عدداً من أفرادها، آخرهم من قتلتهم من "المطبخ العالمي"، وكأنّ إسرائيل، وقادتها الذاهبين في تطرّفهم ووحشيتهم إلى أقاصي ما يمكن للشر أن يصل، مقتنعون تماماً أنّ للعالم قوانينه ولإسرائيل قوانينها، وأنّ ما يطبّق على باقي الشعوب لا يصحّ عليها، فهي مهما تمادت في غيّها ووحشيتها "تدافع عن نفسها"، بينما لم تكفّ منذ إعلانها دولة عن قتل شعب بكامله، وتهجيره واحتلال أراضيه والسطو على ممتلكاته، بل صار هذا السلوك مقدساً يلتقي عنده المتدينون والعلمانيون، فلا يحقّ لهذا الشعب الدفاع عن نفسه، وكلّ محاولة من هذا النوع هي "إرهاب"، على العالم أن يقتنع أنه كذلك، ويدعمها في القضاء عليه.
تمارس إسرائيل اليوم كلّ محاولات التهجير القسري بحق سكان غزّة، وفلسطينيي الضفة
إسرائيل التي تتحمّل المسؤولية القانونية والمادية والأخلاقية والإنسانية عن قتل الفلسطينيين وتهجيرهم، وإقامة المستوطنات على أنقاض قراهم وبلداتهم، وجعلهم لاجئين منذ 1948، لم يستطع العالم مجتمعاً، ولا الدول العربية، إجبارها على تنفيذ القرار رقم 194 الذي يؤكّد حقّ العودة. فبعد مرور 76عاماً على القرار الذي تبنتّه الجمعية العامة للأمم المتحدة وتقرّر فيه وجوب السماح بالعودة للفلسطينيين اللاجئين إلى ديارهم والعيش فيها بسلام، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقرّرون عدم العودة، ها هي إسرائيل تمارس اليوم كلّ محاولات التهجير القسري بحق سكان غزّة، وفلسطينيي الضفة، رغم استنكار شعوب العالم، وحرج داعميها وحلفائها، ورغم الاضطرابات الداخلية التي تعمّ المجتمع الإسرائيلي وتقسّمه انطلاقاً من طريقة التعاطي مع ملفّ الرهائن، الذي هو أولوية لمعارضي سياسة نتنياهو وإدارته الحرب. أما ما يمارسه جيش الاحتلال من وحشية وقتل وإبادة بحق الشعب الفلسطيني، فقضية أخرى غير مطروحة بشكل وازن بالنسبة إلى الإسرائيليين، فإن وُجِدَت أصوات تدعو إلى وقف الحرب والتفاوض على صيغة لحلّ القضية وتحقيق السلام، فهي أصوات قليلة وغير فاعلة في الوقت الراهن، ولن تكون فاعلة في وقت منظور، ما دامت إسرائيل ماضية في مشروعها الكبير، تتقاطع مصالحها مع مصالح داعميها، خاصّة الولايات المتحدة.
إسرائيل اليوم كما الوحش المحاصر، لقد أوصلتها الحرب في غزّة إلى حالة قصوى من التوتر والارتباك
دير ياسين تنهض اليوم من جديد لتحتل الوعي والوجدان، فهي تتكرر كلّ يوم منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بوحشية أكبر، ليس نيّاتٍ وممارساتٍ فحسب، إنما أدوات قتلٍ أيضاً، ابتدعتها التقنيات الذكية التي انتقدها أنطونيو غوتيريس بقوله: "أشعر بالقلق إزاء التقارير التي تتحدث عن استخدام الجيش الإسرائيلي الذكاء الاصطناعي في تحديد الأهداف التي يتم قصفها، خاصة في المناطق المكتظّة بالسكان، ما أدّى إلى سقوط ضحايا مدنيين عديدين، القرارات التي تؤثّر على العائلات في قطاع غزّة يجب ألا تترك للذكاء الاصطناعي، الذي ينبغي أن يستخدم لمصلحة العالم لا لشنّ حرب والإفلات من المحاسبة".
لكن إسرائيل تفلت من العقاب، مع كلّ التصريحات التي أطلقها أخيراً الرئيس جو بايدن أو غيره من رؤساء دول وحكومات داعمة لها، فلم نرَ عقوبة جديّة فرضت على إسرائيل. مع هذا، إنها اليوم كما الوحش المحاصر، لقد أوصلتها الحرب في غزّة إلى حالةٍ قصوى من التوتر والارتباك، على الرغم من الفاتورة الكبيرة التي دفعتها غزّة، هذا هو قدر الشعب الفلسطيني، أن يدفع غالياً ثمن حقوقه المنتهكة، فالحرية والكرامة ثمنهما باهظ.