دولة مستشارين
واحد من الاتهامات التي كانت توجهها قوى "الإطار الشيعي" في العراق ضد حكومة مصطفى الكاظمي السابقة أنّها "دولة مستشارين"، بالإشارة إلى عدد الشخصيات التي عُيّنت في مكاتب رئاسة الجمهورية والوزراء بصفة "مستشار" وهي صفةٌ لا تشير غالباً، في عراق اليوم، إلى ملامح محدّدة لعمل واضح، ويُنظر إليها منصباً شرفياً. لكنّ المفارقة، بحسب كلام مقربين من "الإطار" ومنهم خالد السراي الذي قال، في حديث تلفزيوني لقناة الرشيد الفضائية العراقية (بثّ مساء 29 يناير/ كانون الثاني الجاري) إنّ عدد المستشارين في حكومة محمد كامل السوداني فاق ما كان في حكومة الكاظمي. ويدافع السراي بأنّ هذه الشخصيات التي جرى تعيينها أخيراً محترمة ولها وظيفة ودور واضح الملامح. لكن، كما يقول المثل "لن يقول بائع اللبن إنّ لبنه حامض". وبالتأكيد سيدافع "الإطاريون" عن خطوات حكومة السوداني، ولا ينقدون أصل فكرة تكوين جيشٍ من المستشارين في الحكومة، من دون وظائف حقيقيّة، سوى المجاملات السياسية وزيادة الأعباء المالية على الحكومة في الصرف على محازبي التيارات السياسية المشكّلة للنظام السياسي وأتباعها.
سنرى في المراجعة أنّ أكثر هذه الشخصيّات التي عيّنت، في هذه الحكومة أو الحكومات السابقة، بصفة مستشار، هي من داخل الطبقة السياسية، وكان عديدون منهم أعضاء في البرلمان العراقي في دورات سابقة.
ومن المفارقات أنّ الطبقة السياسية تدرك تماماً أن تضخّم طاقم المستشارين في الرئاسات الثلاث أو غيرها من الهيئات والدوائر الحكومية هو من المشكلات التي تحتاج إلى حلّ، لكنّ هذه الطبقة السياسية، كما مع مشكلات أخرى عديدة في هذا النظام السياسي، لا تبادر إلى حلّها، إلا إذا تعرّضت لضغط شعبي، ما يعزّز التصوّر العام بأن الطبقة السياسية الحالية لا تحاول إيجاد حلول بقدر ما هي متكيّفة مع الواقع المنحرف ومتعايشة معه، بل ترى أن الرأي العام والضغط الشعبي هما المشكلة التي تقلق راحة التيارات السياسية، وتخرّب عليها هناءة اقتسام منافع الدولة.
وكان البرلمان العراقي قد أقرّ، في مارس/ آذار 2017، قانوناً يقلص عدد المستشارين في الرئاسات الثلاث وجميع الوزارات العراقية والهيئات المستقلة؛ في إجراءٍ يهدف إلى إغلاق بابٍ محتمل لـ"الفساد" في الجهاز الإداري للدولة. وفي وقتها، صرّح رئيس اللجنة القانونية في البرلمان، محسن السعدون، لوكالة الأناضول بأنّ "مجلس النواب صوّت لصالح مشروع قانون المستشارين، وبموجبه تقلص عدد المستشارين بالرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية، رئاسة الحكومة، رئاسة البرلمان) إلى ستة مستشارين لكلّ منها، بعد أن كان هناك جيش كبير من المستشارين". وأضاف أنّ مشروع القانون ذاته "حدّد ثلاثة مستشارين فقط لكلّ وزارة أو هيئة مستقلة"، واعتبر أنّ "هذا العدد من المستشارين مقبول، بعد أن كان العدد مفتوحاً من دون ضوابط". لكنّ يبدو أنّ هذا القانون ظلّ حبراً على ورق، لسبب أساسي على ما يبدو: فمن الذي يعترض؟ إنّه نظام سياسي بلا معارضة ولا رقابة، لأنّ الجميع مشتركٌ في كلّ شيء، ومتورّطٌ في الاستفادة من الفساد والتراخي والترهّل وعدم الكفاءة.
في الأيام التي سبقت تظاهرات 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 فرّ سياسيون ونوّاب أو مقرّبون منهم من بغداد، وكنت أرى، بعيني، كيف صار تزاحم الشخصيات السياسية على مصارف بغداد الأهلية لسحب الأموال والفرار بها، بحيث عرقلت هذه "السحوبات" الكثيرة من سير التعاملات المالية للعملاء العاديين من المواطنين. حدثت كلّ هذه الإرباكات بسبب القلق والخوف لدى السياسيين مما سيفعله المواطنون الغاضبون في يوم التظاهرات المُعلن عنه سلفاً.
وكما كتبتُ سابقاً؛ هذا ما يخاف منه السياسيون، ولأنّ التظاهرات الشعبية الحاشدة لن تكون موجودة في كلّ وقتٍ، ولأنّها قابلةٌ للاستنزاف، كما حصل مع تظاهرات تشرين، وتحتاج عوامل عديدة، تحوّل ملح اليأس والإحباط إلى كبريت غضب، فإن لا شيء يمنع الطبقة السياسية من ارتكاب خروقٍ قانونية وأخلاقية ووطنية، قدر ما تشاء، وتعوّل، في ذلك كله، على تلاحق الأحداث، فالأحداث يُنسي بعضُها بعضاً.