دوحة العرب: حيث يصحّح الغرب صورته
في قطر، حيث اجتمع الناس من أقطار الأرض لموسم ينتظره عشّاق الرياضة في العالم، أبت مؤسّسات إعلام غربية وازنة وسياسيون وآخرون في فلكهما، إلا أن يتابعوا تصحيح صورة الغرب التي كانت عقودا مغلوطة في أذهان عامّة الناس من الشعوب العربية والشرق أوسطية، حيث ظلّ الغرب عقودا مثالًا لما افتقدته تلك الشعوب في ظل الدولة الحديثة من قيم نبيلة وحقوق حلمت بها وسعت إلى تحقيقها. في الوقت نفسه، كان مفكرون غربيون يتحدّثون عقودا عن الشعوب العربية بوصفها مستعصيةً على الحداثة والمراس الديمقراطي، فيما كان آخرون يقدّمون لهم الدروس وربما الدعم النسبي. أما الحكومات والمنظمات، فاستخدمت حقوق الإنسان شمّاعة خطابية في علاقاتها مع دول المنطقة، ولمّا انتفضت الشعوب العربية في ربيعها الذي حلمت به قنطرةً للعبور إلى دول حديثة ترعى حقوق أهلها وتحفظ كرامتهم وأموالهم. استجابت دول غربية، بعد تردّد، لدعم تلك الطموحات، إلى أن حان استحقاق الثمن، وشعر الغرب مع تطورات الأحداث، لا سيما الهجرة المكثفة واستحقاقاتها، أن ذلك يهدّد المصالح الغربية. تراجع هذا الدعم الغربي، لا سيما في الإعلام، وتحوّل الدعم الرسمي إلى شعاراتٍ في المناسبات، فيما عادت الأحلاف مع الدول العميقة التي ثارت عليها الشعوب إلى سابق عهدها، وربما لم تنقطع إلا في العلن، وخُذلت الشعوب في وسط الطريق، وأصبحت القضية الكبرى هي التطرّف وليس الاستبداد الذي قاد إليه، فكانت تلك أولى المكاشفات الحديثة التي وعتها الشعوب تجاه الغرب ومواقفه، وأنها مصالح أولًا وأخيرًا، وإنْ لبست ثوب الحقوق والأخلاق.
ثاني تلك المكاشفات نقلتها الشاشات ونشرات الأخبار عبر سنوات، حيث لم تنقطع أخبار عبارات الموت الغارقة أو المُغْرَقة في البحر المتوسط، ومن نجا من تلك العبارات فغدا لاجئًا اكتشف بنفسه وجهي الصورة، فمن كان محظوظًا بأن وُجد في بيئة تحترم الحقوق وترعاها، كان سعيدًا إلى حين أن يكشف له المجتمع عن أوجهٍ أخرى من العنصرية والتمييز، ليس في أوساط شعبوية وغير متعلّمة فقط، إنما في مؤسّسات للتعليم، يفترض أنها تتولّى مهمة التربية على مكافحة التمييز والعنصرية، وسينتظر اللاجئون العرب والمسلمون نحو عقد لتكتمل المكاشفة مع قدوم أشقائهم في المأساة من أوكرانيا، من ذوي العرق الأبيض والعيون الزرقاء، حيث ستُفتح لهم الأبواب من دون خلاف سياسي أو قلق اجتماعي أو اقتصادي، حتى وإن بلغت أعدادهم في أشهر مثل أعداد اللاجئين العرب والمسلمين في سنوات، وسيختفي الحديث عن الاندماج، فاللاجئون هذه المرّة، حسب صحيفة تليغراف البريطانية: "إنهم يشبهوننا، وهذا ما يجعل المسألة صادمة. أوكرانيا بلد أوروبي، أهله يشاهدون نتفلكس ولديهم حسابات في إنستغرام". هذا الشبه في اللون والعيون الزرقاء، وفي الدين أيضًا، قد أعمى عيون الإعلام الغربي عام 2018 عند تنظيم كأس العالم في روسيا (المحتلة جزيرة القرم) عن موقفها من المثلية، وعن ضحايا قصفها المدنيين في سورية حتى في عام تنظيمها البطولة وفي أثنائه، فضلًا عن تقارير المنظّمات عن وضع الحقوق فيها، قبل أن ينقلب الغرب عليها وتصبح شرًا مطلقًا.
أعمى الإعلام الغربي عيونه عند تنظيم كأس العالم في روسيا (المحتلة جزيرة القرم) عن موقفها من المثلية، وعن ضحايا قصفها مدنيين في سورية
ثمّة وجه آخر من المكاشفة سيلمسه أكثر الباحثين العرب والمسلمون في الغرب، لا سيما من ذلك الجيل الجديد في الجامعات الغربية من الدراسين في حقول العلوم الإنسانية، حيث المركزية الأوروبية في الفكر والثقافة، حيث يصعب تقبل أطروحة لا تبنى على مسلّمات مفترضة، على أساس تلك المركزية، سواء في السياسة أو التاريخ أو الدين، بل والأخلاق أيضًا، فضلًا عن أن تكون قضيةً متصلة بالشرق الأوسط أو الإسلام نفسه.
جديد المكاشفات التي أبى الغربيون إلا أن يكملوها أين حطّت رحالهم في دوحة الشرق، واضطرّوا لأن يكونوا فيها هامشًا لا مركزًا، فهم هذه المرّة بعضُ العالم، يحلّون ضيوفًا على أناسٍ لا يشبهونهم، حيث رمال الصحراء والشمس الساطعة، واللباس العربي التقليدي، بل والخيمة العربية تستضيفهم بأحدث ما عرفوه من تكنولوجيا، لا شروط نافذة لهم في هذا الإقليم الصغير إلا ما تعاقدوا عليه، هنا في قطر أين اختار أن يعيش ويعمل منتسبون إلى جنسيات العالم المختلفة، في هذه البقعة الصغيرة استمرّت الحياة بينهم في إلفٍ وأمانٍ سنوات بل عقودا، جاءوا باختيارهم وإرادتهم غير مكرهين، لكسب لقمة العيش وإعمار ذلك البلد المضيف لهم، لكن فجأة يكتشف الإعلام الغربي أن هؤلاء المتنافسين للحصول على عقود العمل مع الشركات (منها شركات أو استثمارات غربية) العاملة في قطر مضطهدون، وأن حقوقهم مهضومة. ولاحظوا أيضًا أن بضعة من هذه الملايين التي لم تتجاوز الثلاثة، والتي جاءت باختيارها للعيش في الدوحة، محرومة من ممارسة ما يعتبره القانون والثقافة والمجتمع والدين شذوذًا، وسيجنّد الإعلام الغربي لنصرتهم في موسمٍ لا يجمع زوّاره غير الرياضة والتعارف على هامشها، لكن المركزية الأوروبية/ الغربية كانت تصرّ على أن تكشف عن ازدواجيتها في الخطاب والممارسة، فالخطأ (من منظورهم) عندما يقع ممن "يشبههم" ليس مشكلة تستحقّ الضجيج، هذا إن تمت ملاحظته. أما الخطأ ممن "لا يشبههم" فمجهر الإعلام لا يغادرهم، سواء أوقَع في بلاد الغرب نفسه، حيث التغطية مفصّلة لكل صغيرة وكبيرة من هفوات الأجانب والعرب والمسلمين، بخلاف نظائرهم ممن يخضعون للقانون نفسه، أم كان ذلك في بلاد أخرى عربية أو إسلامية، فما بالك أن تفرض تلك البلاد على الغربيين شروطها وقوانينها.
المركزية الأوروبية/ الغربية تصرّ على أن تكشف عن ازدواجيتها في الخطاب والممارسة، فالخطأ (من منظورهم) ممن "يشبههم" ليس مشكلة تستحقّ الضجيج
الموقف الغربي الرسمي والإعلامي من بطولة العالم في قطر ما هو إلا محطّة (غير مقصودة) من تصحيح الغرب صورته لدى من كان مخدوعًا بها على أنها خير مطلق وأنها النموذج الأمثل في كل شيء، فهذه الصورة المثالية المتخيلة، التي رسمها الاستلاب الثقافي العربي الذي ساد عبر عقود مضت، بدأت تتفكك تدريجيًا خلال العقد الماضي. وبدا الإعلام الأوروبي على وجه الخصوص رائدًا في تفكيك هذه الصورة عن الداخل الأوروبي وعن علاقته مع الآخر فيه وخارجه، شاركت في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي التي بدّدت أوهاما وأساطير كثيرة، وكان للمهاجرين والمهجّرين العرب دور بارز في معاينة الواقع وتلمّس الفروق بينه وبين المتخيل، وترشيد الوعي وتجسير الفجوة القائمة بين الحقيقة والمثال. لذا كان أعمق النقد وأرشده ذاك الذي يقدّمه من عاشوا في الغرب نفسه، وعايشوا اتجاهاته وازدواجيته، بعيدًا عن الثناء المطلق والرفض العدمي. والأهم من ذلك أن تلك الصورة السلبية التي يكشفها الإعلام الغربي عن نفسه للعالم العربي كانت مرآة كاشفة للغربيين أنفسهم من عامّة الناس، فبدأ كثيرون منهم يصحون لخديعة الإعلام لهم، وأنهم ضحاياه أيضًا، إذ تُنقَل لهم صورة منتقاة، وتُحجَب أخرى، حيث اقتضت المصلحة والسياسة ذلك، وكانت صورة قطر نموذجًا للانتقائية التي يمارسها الغرب، سواء بالمقارنة بين قطر وغيرها، أم في توقيت انتقادها ومناطه، فعند صفقات المال وعقود الشركات، لا يسمع أحدٌ إلا بحجم رأس المال والعقود، وكأن قضايا العمّال والحقوق لم تكن موجودة، وكأن الشركات الغربية المتعاقدة لا صلة لها بحقوقهم، ولا تظهر تلك الحقوق إلا في الشأن الثقافي، وعندما تكون قطر متنًا والغرب هامشًا. في المقابل، لم تكن أصوات الجمعيات الحقوقية تُسمع من الساسة، عندما يعقدون صفقات التسليح ونحوها مع دول العالم الثالث، عندما تذكّرهم بأعداد المساجين السياسيين المضطهدين، وهم أضعاف أعداد العمّال الذين أثيرت قضاياهم في الإعلام بمناسبة كأس العالم.
لكي لا يذهب الأمر بعيدًا، فالوعي بازدواجية الغرب في معاييره، والذي كان، في الغالب، مقصورًا على القضايا السياسية والقضية الفلسطينية بشكل خاص، لا يعني أن الغرب قد تحوّل إلى شرّ محض، كما يحلو للإعلام الشعبوي ترويجه، كما لا يعني أن ضحايا هذه الازدواجية بخير مطلق دائمًا، فالغرب كان ولا يزال في منظومته الحقوقية هو أفضل خيارٍ لمنتقديه أنفسهم، ولم تقدّم البلاد الإسلامية والعربية نموذجا بديلًا له، لا بمعاييرها الإسلامية ولا بمعايير الغرب حين تحذو حذوه في خياراتها، فالوعي بالأخطاء لا ينبغي أن يقود إلى غرورٍ كاذبٍ وخادع، ولا أن يدوس على فضيلة الإنصاف، بل هو ضرورة معرفية وأخلاقية لفهم الآخر الغربي على وجه الخصوص، فالمركزية الأوروبية في المعرفة والأخلاق ليست بالأمر الجديد، وقد دأبت نخبٌ عربية على ترويج كونية هذه المركزية الغربية وحداثتها الممجّدة، ودأبت نخب أخرى على إدانتها بالمطلق، وكأنه لا إنساني مشتركًا بين العالمين، الإسلامي والغربي، إما استلاب وتغريب أو ندّية مطلقة، لكن للتاريخ مساراته، وللأحداث فرصها وخياراتها، ومنها موسم كأس العالم في قطر، حيث تقاطر الناس إلى دوحتها من أقطار الأرض، وسيعودون بصورة أخرى، أدناها أن رؤية المسلمين للعالم هي ما افتتح به المهرجان ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].