في أوهام التعويل على تحوّل الرأي العام الغربي
تداولت وسائل إعلام عربية، ولا تزال، نتائج استطلاع للرأي نشرته صحيفة جيروزاليم بوست أظهرت أن أغلبية من الشباب الأميركيين من الفئة العمرية بين 18 و24 عاما تتبنّى مواقف غير داعمة لإسرائيل، بل مناهضة لها أحيانًا. وذلك استنادًا إلى الاستطلاع الذي أجراه معهد هاريس ومركز الدراسات السياسية الأميركية في جامعة هارفارد في 13- 14 ديسمبر/ كانون الأول 2024 وشمل نحو ألفي ناخب أميركي من فئاتٍ عمريةٍ مختلفة، وركزت الصحيفة من نتائج الاستطلاع بالتحديد على أن 51% من الشباب من هذه الفئة يعتقدون أن الحل طويل المدى للصراع الإسرائيلي الفلسطيني "إنهاء إسرائيل وتسليمها لحماس والفلسطينيين". وتم تناقل هذه النتيجة على نطاق واسع ومن شخصيات بارزة (منهم أمين عام حزب الله حسن نصرالله في أحد خطاباته) والتعويل عليها، وأن هذا التحوّل في رأي الشباب هو نتيجة "طوفان الأقصى"، وأغفلت الصحيفة إياها تفاصيل أخرى أهم في نتائج الاستبيان نفسه، وكذا مَن نقل عنها تلك النتيجة، وظلت الصحيفة التي ألقت الضوء على تلك النتيجة المنتقاة هي المرجع الوحيد الذي يحال إليه رغم أن تقرير نتائج الاستطلاع (70 صفحة) متاح لمن أراد الاطلاع عليه على موقع المؤسّسة التي أنجزته، وهذا أدّى إلى ترويج سردية الصحيفة وما أرادت إبرازه تحديداً، وإغفال النتائج الأخرى، بل وحيثيات الاستطلاع وطبيعة الأسئلة الأخرى التي تقلّل من أهمية هذه النتيجة البارزة التي تبيع الوهم للعرب وتبث الفزع لدى الإسرائيليين.
في اتجاه مواز، خصّصت القنوات الفضائية العربية مساحة لا بأس بها لتغطية الاحتجاجات ضد الحرب على غزّة في ساحات المدن والعواصم الغربية، وأمكن للمشاهد في نهاية كل أسبوع المتابعة بشكل مباشر ومتزامن للمظاهرات الأسبوعية ضد الحرب، فيما غابت عن هذه الشاشات احتجاجات منتظرة لم تعرفها كبرى العواصم والمدن العربية بما فيها عواصم "الممانعة"، وظل الغرب هو الوجهة والجهة التي يعول عليها، في الوقت الذي تُشتَم فيه دُوله على مواقفها، وتُنتظر شعوبه لتغيير هذه المواقف، بينما تطمح أجيال الشباب العربي من العُمر نفسه إلى الوصول إليه ضمن قوافل من المهاجرين حتى بالمغامرة بالحياة.
لا يقصد هذا المقال نفي وجود تحوّلات ضئيلة ونسبية في الرأي العام الغربي والعالمي تجاه قضايا عالمية مختلفة، ومنها القضية الفلسطينية، ففضلًا عن انتعاش أقصى اليمين في الغرب وأقصى اليسار (بنسبة أقل) في السنوات الأخيرة، فإن هذه التحولات في الرأي العام شأن طبيعي تقتضيه مساحة الحرية الفردية وحرية التعبير المتاحة في الغرب، والتي تتيح للأفراد الوصول إلى المعلومات، حتى التي تحجبها عمداً وسائل الإعلام الغربية، فبفضل "وسائل الاتصال الاجتماعي" لم تعد وسائل الإعلام الغربية، رغم هيمنتها، المصدر الوحيد، وإن كانت هي الغالب والمسيطر. إنما الذي أود التنبيه إليه أمران، الأول محدودية تأثير الرأي العام في القرارات الكبرى والاستراتيجية للدول الغربية، ومنها الموقف من القضايا الخارجية كالقضية الفلسطينية ودعم إسرائيل، بل وحتى الحروب نفسها، فليس بعيداً عن الذاكرة حجم الاحتجاجات الغربية الشعبية والرسمية ضد غزو العراق، والتي عمّت ساحات العواصم الغربية والعالمية حينها بما فيها أميركا وبريطانيا، وكانت حكومات غربية كثيرة ضد الحرب نفسها، ومع ذلك لم يحُل ذلك دون غزو العراق، والأمثلة كثيرة عن محدودية تأثير رأي الجماهير طالما كان رأيهم في قضايا لا تترك أثراً فعليّاً في صناديق الاقتراع، وهي لعبة تتقنها الأحزاب الحاكمة في اختيار قراراتها، هذا فضلًا عن أن تكون الاتجاهات الأخرى هي ذات الثقل في صناديق الاقتراع. الأمر الثاني الذي أود تفكيكه في هذه المقال هو الخديعة التي روجت لها الصحيفة الإسرائيلية وسارت بها الركبان، ومفادها أن غالبية الشباب الأميركي (51%)! يرون "إنهاء إسرائيل وتسليمها لحماس والفلسطينيين".
التحولات في الرأي العام شأن طبيعي تقتضيه مساحة الحرية الفردية وحرية التعبير المتاحة في الغرب
رغم عدم تخصّصي في الدراسات الميدانية، فإن ما أفهمه، ويبدو من الأمور المعهودة، أن قراءة نتائج أي استطلاع للرأي (عندما يكون موضوعيّاً وبريئاً) ينبغي أن تُبنى على تصوّر شامل عن العينة لمشاركة فيه من حيث عددها وتمثيلها الشريحة التي تعبر عنها، وكذا كيفية صياغة الأسئلة ومدى موضوعيتها، وطريقة توجيه الأسئلة لهم، ومقارنة إجابات بعض الأسئلة بإجابات أسئلة أخرى لما قد تكشف عنه من تناقض، أو نسبية الجواب أو عشوائيته، ونحو ذلك مما من شأنه أن يتبادر لمن يقرأ كل الأسئلة وكل النتائج، والأهم ما يمكن أن يكشف عنه الاستطلاع نفسه من نية مصممه لتوجيه الإجابات في اتجاهات محدودة دون غيرها.
لدى تتبع تفاصيل الاستطلاع المحال إليه نقرأ في مقدّمته أنه تم إجراؤه عبر الإنترنت داخل الولايات المتحدة الولايات من 13 إلى 14 ديسمبر/ كانون الأول من بين 2034 من المسجلين لدى Harris Poll وHarrisX، الجهتين المتخصّصتين بأبحاث الرأي العام وتحليلاتها، وتتبع مشاعر البالغين الأميركيين وسلوكياتهم ودوافعهم، وقد جاء في مقدمة التقرير أنه تم تمييز النتائج بحسب العمر والجنس والمنطقة والبلد، والعرق/الإثنية، والحالة الاجتماعية، وحجم الأسرة، والدخل، والتوظيف والتعليم والحزب السياسي والأيديولوجية السياسة حيثما كان ذلك ضروريًا، لكن أيًا من هذه المعطيات غير العمر لم يتم تمييزها بالنسبة للأسئلة المتعلقة بالحرب على غزة، وتم إبهام كل شيء عنهم رغم أهميته، فلا ندري كم عدد المستطلعة آراؤهم من الشريحة العمرية الشابة (18- 24 سنة)، من بين 2034 مشاركا، وهل هي شريحة معتبرة من حيث العدد حتى تعد تحولًا في اتجاهات الشباب، وما هي خلفياتهم العرقية والسياسية والحزبية، أليست معرفة هذه التفاصيل ضرورية، فلم أهملها التقرير؟!
ولمعرفة حجم إحاطة المستطلعة آراؤهم بالقضية الفلسطينية والتي طرحت بعنوان "إسرائيل" من بين قضايا أخرى، كانت في آخر القائمة، وتحظى باهتمام 2% فقط من بين جميع المشاركين في الاستبيان، ما يعني أن نحو 40 شخصًا فقط (بمن فيهم الشباب) لديهم اهتمام بالقضية، وبالتالي يمكن أن تكون إجاباتهم مبنية على معلومات ومواقف مسبقة وليست عشوائية أو متأثرة بوسائل الإعلام، هذه الأكثرية من الشباب المشار إليها لا يتجاوز عددها مع جميع شرائح الفئات العمرية المصنّفة ممن إجاباتهم متشابهة 19% من جميع المشاركين في الاستبيان، وهي النسبة نفسها ممن يؤيدون "حماس" ويؤيدون إنهاء إسرائيل في المستقبل لصالحها حلّاً طويل الأمد في سؤال يبدو افتراضيًا، حسب الاستبيان.
على الجهات العربية والمؤسسات السياسية المعنية بمعرفة توجهات الرأي العام الغربي وصناعته أن تقيس بنفسها هذه الآراء وتحللها وتبني عليها
لكن هذه الشريحة الشبابية (18- 24 سنة) المحتفى بها عربيًا يصدّق 76% منهم أن مقاتلي "حماس" ارتكبوا يوم 7 أكتوبر جرائم الاغتصاب وغيرها من الجرائم ضد المرأة، ويرى 81% أن على الجماعات النسائية أن تدين "حماس صراحةً لارتكابها جرائم الاغتصاب وغيرها من الجرائم ضد النساء، ويرى 80% منهم (18- 24 سنة) أن من حقّ إسرائيل أن تدافع عن نفسها ضد الإرهاب بشنّ غارات جوية على أهداف بشكل مكثف على المناطق الفلسطينية المأهولة بالسكان مع تحذيرات لهؤلاء المواطنين. ويرى 40% من الشريحة الشبابية إياها أن إسرائيل لا ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، وأنها تحاول الدفاع عن نفسها فقط والقضاء على "حماس"، ويرى 70% من الشريحة نفسها أن إسرائيل تحاول تجنّب وقوع إصابات بين المدنيين، ويرى 73% منهم أيضًا أن على رؤساء الجامعات الذين جرى استجوابهم بشأن مظاهرات في جامعاتهم صُنّفت معادية للسامية، أن يستقيلوا من مناصبهم.
لعيّنة الشباب المجهول عددها في الاستطلاع، وطبيعة إجابات الفئة نفسها عن أسئلة أخرى صيغت بعناية، لا تسمحان بما يروجه الإعلام العربي من وجود تحوّل مهم في رأي الشباب الأميركي تجاه القضية الفلسطينية أو الحرب على غزّة، ومن التضليل بمكان ترويج مؤشرات عددية على أنه تحوّلات مهمة يمكن البناء عليها، وحتى لو كانت حقائق وبأضعاف هذه النسب، فإن التجارب لا تشير إلى تأثيرها الفعلي. وعلى الجهات العربية والمؤسّسات السياسية المعنية بمعرفة توجّهات الرأي العام الغربي وصناعته أن تقيس بنفسها هذه الآراء وتحللها وتبني عليها، ويستغرب ألا توجد جهة تقوم بذلك، ونظائره من الدراسات مما ينبغي أن يجري وفق أسس علمية، لا أن تروّج سردية موهومة ومغرضة صيغت على معلومة صحيحة من حيث المبدأ، لكنها لا تصلح للبناء عليها.