دفاعاً عن الحالة الثورية لا عن وحيد حامد

07 يناير 2021
+ الخط -

جاءت وفاة السيناريست المصري، وحيد حامد، نهاية الأسبوع الماضي، لا لتُحزن أهله ومحبي فنه عليه، أو حتى تعيد إلى ذاكرة مخالفي "بعض" أعماله، السينمائية أو التلفزيونية، التي لم تكن على مستوى المضمون الذي يفضلونه ويحبونه؛ بل جاءت الوفاة لتتجاوز هذا وذاك، بل لا مبالغة في القول إنها فتحت آلام جرح غائر دامٍ في جبهة الحياة السياسية المصرية الحالية، بما يتجاوز بمراحل الإنتاج الدرامي للراحل، ومسيرة حياته وآرائه، إلى ما هو أبعد من ذلك، بخاصة الفرقة والتمادي في الخلاف بين أطياف بنية المجتمع المصري الثوري نفسه؛ وبالتالي فإن ذلك ينفي مزاعم كثيرين أنهم يتناولون وفاة الرجل بما يشبه الحيادية، ويعلقون عليها بما "يليق" بشخصه وفنه وآرائه؛ فإنما نحن في الحقيقة إزاء انقسام وتمزّق في بنية المجتمع الراغب في التغيير نفسها، بصورة تتزايد مع الوقت، وتُجبر كثيرين من المتفائلين والراغبين في رأب الصدع، وتجاوز الحالة السياسية والصراع، بل "المستنقع الراهن"، على ما يشبه "يأسا مرحليا" للأسف، وهم يرون غياب شمس الديمقراطية وآمال طريق ثورة 25 يناير الطويل، والجهاد والكفاح العسير للشرفاء؛ بخاصة مع تكرار ردود الفعل المؤسفة، كلما مات فنان حقيقي مثل حامد.

تفرّغ كثيرون "منتسبون" للتيار المفترض أنه إسلامي، لترجمة الخلاف مع وحيد حامد إلى ألفاظ بالغة القسوة، في وصف "مناطق" الخلاف معه، و"تبشيره" بما يرونه مصيرًا مستحقًا من "سقر"

ليست هذه مقالة في تقييم مضمون أعمال الراحل التي نختلف مع بعضها، ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف بموهبة الرجل السخية، وأعمال أخرى له كانت نورًا على درب طلب الحرية والكفاح في سبيلها، ومنها على سبيل المثال أفلام، البريء، الغول، آخر الرجال المحترمين، الإرهاب والكباب، طيور الظلام. وبدلًا من احترام وفاة الرجل والتسامي فوق "شخصنة" مناطق خلاف معه، متسعة وكثيرة، بخاصة مواقفه من تولي الرئيس الراحل محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين وبعض تصريحاته ومواقفه؛ يتفرغ كثيرون "منتسبون" للتيار المفترض أنه إسلامي، لترجمة الخلاف إلى ألفاظ بالغة القسوة، في وصف "مناطق" الخلاف مع الراحل، و"تبشيره" بما يرونه مصيرًا مستحقًا من "سقر" (والعياذ بالله تعالى) وبئس المصير. وكأن القائلين بهذا يقفون على باب الجنان، ويملكون مفاتح جهنم، ولهم أن يصدّوا الرجل عن النعيم ويدخلوه الجحيم. ومن هؤلاء مثقفون وثوريون، الأصل فيهم أنهم يقفون على حدود الله ونواهيه من عدم التعرّض لميتٍ صار بين يديه تعالى، وهو وحده الأعلم به وبحاله، فضلًا عن أنه الأعدل منهم ومن كلماتهم والأرأف بالجميع. حالة "التردّي" في الحكم على كل متوفّى أخذ موقفًا من تيار بعينه شارك في الثورة المصرية، أو حتى من الثورة كلها، مؤشر خطير تصدق فيه مقولة ابن خلدون "إن الشعوب التي يحكمها طغاة تسوء أخلاقها"، فكلما رحل كاتب أو فنان أو مخالف تجدّدت المأساة، ومن عجبٍ أن كثيرين يستخدمون مفرداتٍ وكلمات دينية يحسبون أنهم يُنزلونها مقامها ومكانها الصحيحين، مع علم أكثرهم وتغاضيهم عن نهي صريح واضح في أحاديث صحيحة للرسول، صلى الله عليه وسلم، من التعرّض لميتٍ سلم أمره لله تعالى، ولن ينفعه أو يضرّه حكم بشر على شخصه، ولو كان من الذين يعتقدون قربهم من الخالق. ومن هذه الأحاديث: عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، "لا تسبّوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدّموا"، والحديث في صحيح البخاري. وجاء في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله، رضي الله عنه، قال الرسول العظيم: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى علي أن أغفر لعبدي قد غفرت له وأحبطت عملك"؛ فكيف بعد هذين النصين يتحدّث إسلاميون ثوريون مفترضون في مصير راحلين عن الحياة، فيما أحدهم لا يملك شيئًا من مصيره لدى خالقه، وقد يؤدّي قول أحدهم إلى هلاكه هو نفسه بحسب الحديث الأخير.

ثوريون مفترضون منشغلون بالعداوات وإشعالها وفرضها على الصف، ليأسى على حالهم الصديق

السؤال الثوري المجهد المضني من بعد: هل تنفع هذه الأقوال والأفعال المسيرة الثورية المصرية المصيرية، أم تزيد تفتيت المجتمع وتعطي صورة بالغة القتامة عن قطاع غير قليل من الإسلاميين، وتضطرّ غيرهم إلى الرد القاسي عليهم، بما يوحي، بل يكرّس، للمفهوم الذي يريد النظام الحاكم الحالي الوصول إليه أن المجتمع كله غير مهيأ للديمقراطية، وبالتالي الحرية، فتصبح قضاياهما مؤجلة، ويبقى الوضع على ما هو عليه، مع استمرار معاناة مئات الألوف على الأقل بين سجين ومصاب ومطارد، وأهالٍ لهم يقاسون أوضاعًا معيشية بالغة الشدّة؟! فيما ثوريون مفترضون منشغلون بمثل هذه العداوات وإشعالها وفرضها على الصف، ليأسى على حالهم الصديق، ويطرب لأفعالهم الأعداء. ويزيد من اشتعال هذه الحالات أن مسيرة تعثر الثورة في مصر طويلة، ما يعني وفاة مزيد من معارضيها أو المختلفين ولو مرحليًا معها. وفي الوقت نفسه، نشر في مواقع التواصل الاجتماعي كثيرٌ مما في دواخل مزيد من "المنتسبين" لتيارات ثورية، فيما كثير منهم لا يحسن التفكير، ولا إدراك حقيقة موقفه من قضايا الدنيا والدين، وخصوصا الثورة؛ وهؤلاء يُفسدون أكثر مما يصلحون، وموقفهم من الراحل وحيد حامد، ومنْ آخرين سبقوه إلى طريقِ كل الناس سالكوه، ولا يظلم فيه الخالق أحدًا، ولا يؤخذ بحكم أحد في الآخر؛ لعل هذا الموقف دليل على خلل وقصور شديدين في المسيرة والواقع. وحتى إن صح أن الراحل أخطأ في موقف أو إنتاج أو إبداع، فإن من المفترض أن يترجم هؤلاء، خصوصا المنتسبين للإسلام، حسن معانيه، إلى أفعالٍ تستنكر أعمال الراحلين وتدحضها، من دون التعرّض لأشخاصهم، والحكم عليهم بما يوحي بالتشفّي فيهم، واستخلاص حق النفس منهم مما لم يستطيعوا استنفاذه في الدنيا بالقوة، ولم يكن لهم أن ينالوه في حياة كل راحلٍ "أوجعهم" في حياته. وبدلًا من العناية بكوادر مبدعة من داخلهم، تستطيع التعبير عن أفكارهم ينقضون أجلّ مبادئهم، ويخلخلون الصف الثوري. وحينما تنعدم مثل هذه "السلوكيات"، ننتظر حينها صحوة وإفاقة للحالة الثورية المصرية!