في مأساة عبد المنعم أبو الفتوح
لعله من أكثر الأسئلة مرارةً في واقع الصراع المتأزم الضاري بين الإخوان المسلمين في مصر والجنرال عبد الفتاح السيسي: ماذا يريد الجنرال، وماذا تريد الجماعة في المقابل من مصر؟ ومن البحث في السؤال تدبر موقف المرشّح الرئاسي الأسبق، رئيس حزب مصر القوية، المناضل الطبيب عبد المنعم أبو الفتوح، ومعاناته، وهو يكاد يلقى حتفه في السجن، خصوصا بعدما تعرّض لأزمتين قلبيتين، في يوم الجمعة الأول من يوليو/ تموز الحالي، وفي الأربعاء التالي له، فيما يتمادى بعض أنصار الجانبين في الشماتة فيه!
كانت لأبو الفتوح نظرة وموقف خاصّان في أحداث 30 يونيو (2013)، فشارك فيها ضمن سياق موقفه من الإخوان المسلمين بعد فصلهم له في مايو/ أيار 2011. ولكن يبقى أنه رفض "3 يوليو" واعتبره انقلابًا، مصرحًا: "كنتُ أريد إسقاط الإخوان لكن بصندوق الانتخابات الذي جاءوا به". ويدخل موقفه بعامة ضمن تداخل خيوط الأحداث في مصر، فقد قال الراحل الشيخ محمد الغزالي عن جماعة الإخوان، بعد انفصاله بسنوات عنها، رغم عودته غير الكاملة إليها: "إن آفة رجال ضلوا الطريق إلى الحياة ومغانمها ومكاسبها الزائلة تزداد لمّا يلتحقون بركب الدعوة، فلا هم الذين نالوا الدنيا من أبوابها، ولا هم الذين تركوا الدعوة في صفائها ونقائها".
ولعل تكرار مأساة الجماعة في 1954 و2013 على يد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ثم السيسي، يشي بأن الداء متغلغل في الجماعة، مضافًا إليه مرض أخطر، هو الخلط بين الأتباع الدينيين من أعضاء الجماعة، وخلط المفاهيم في أذهانهم، وإفهامهم أنهم جنود في "صفّ سياسي" لمعركة لقيادة مصر وحكمها، ثم العالم، لا بصف جماعة ذات صبغة دينية!
تكرار مأساة جماعة الإخوان المسلمين في 1954 و2013 على يد جمال عبد الناصر، ثم السيسي، يشي بأن الداء متغلغل في الجماعة
مأساة أبو الفتوح وأمثاله أنهم يطلّون برؤوسهم، فيرفضون أن يكونوا جزءًا من المشهد العام؛ فيشعلون الأفهام ويُعملون العقول ويرفضون الانطواء خلف دعاوى المرتاحين للتيار. ولذلك ظل يرفض لقب "إسلامي"، ويرى نفسه ابنًا للنضال والكفاح منذ عهد عبد الناصر، لمّا اكتشف كذبة النصر الموهوم في 5 يونيو/ حزيران 1967، فخرج متظاهرًا ضد الزعيم الأوحد وعمره نحو 16 عامًا. ثم جاء الرئيس أنور السادات، فوقف ضده في فبراير/ شباط 1977م، وأبو الفتوح وقتها رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة، وأمين لجنة الإعلام في اتحاد طلاب مصر، وكان أن منع السادات تعيينه معيدًا في الجامعة رغم تفوّقه في كلية الطب، ثم أمر بالقبض عليه في أحداث سبتمبر 1981. ولما جاء الرئيس حسني مبارك إلى الحكم كان المناضل قد نضج أكثر، وآثر التقارب مع جميع التيارات المجتمعية، رغم وصوله إلى مكتب إرشاد الجماعة، ليستمرّ في تحمّل تبعات النضال، ولم يمنعاه، السجن سنوات والتضييق عليه، من تولّي الأمانة العامة لاتحاد الأطباء العرب، ولكن الوضع تغير بعد ثورة 25 يناير (2011)، فلم ينس له السيسي ترشّحه للرئاسة في 2012، ونيله المركز الرابع، رغم عدم دعم مؤسسة، كالجيش أو الإخوان المسلمين، أو تيار كالعلمانيين، له. وفي المقابل، لم ينس "الإخوان" له خروجهم عليه، ثم إنه، حتى بعد نيله حكمًا في 29 من مايو/ أيار الماضي بالسجن المشدد لـ15 عامًا، وقد بلغ نحو 70 عامًا، مُطالبٌ بالاعتذار للإخوان لدى بعض التنظيميين والمثقفين التابعين إليهم، أي أن أبو الفتوح لم يكن في حاجة لاعتذار لمّا عارض عبد الناصر، السادات، مبارك، والسيسي، واحتاج إليه لمّا عارض "الإخوان"، وهو مسنّ ومسجون!
ومن خلاصات الأمر، على الجانب الآخر، أن أبا الفتوح ونائبه في حزب مصر القوية، محمد القصاص، كانا على قوائم المعفو عنهم بقرار رئاسي حتى قبيل الحكم عليهما بساعات، حسب كلمات وزير القوى العاملة الأسبق، كمال أبو عيطة، لبرنامج تلفزيوني يقدّمه المقرّب من النظام الإعلامي خيري رمضان، وأبو عيطة عضو في لجنة الإعفاء الرئاسية، لولا أن السيسي استبق العفو بأمر سريع بالحكم على أبو الفتوح والقصاص بالسجن، فإن قيل إن الجنرال انتهز الفرصة لإنهاء حياة أبي الفتوح قبل إفراجه عن آخرين من مقاوميه السلميين؛ قلنا إن الجنرال بيّت النية لمحاولة القضاء على مرشّح رئاسي يهدّده في مقتل، كما حاول من قبل (بطرق مختلفة) إقصاء الفريق سامي عنان والعقيد في الجيش أحمد قنصوة، والتسبب بوفاة الرئيس الراحل محمد مرسي، وتحجيم الفريق المرشّح الرئاسي الأسبق أحمد شفيق، وهلم جرًا. وليست هناك إشكالية لديه في إخراج عدد قليل من قليل من المظلومين منهم، إذ يقدّرون حتى الآن بأقل من 180 مفرجًا عنهم، رغم "الزّفة الرسمية المهللة"، فالسيسي أيضًا يريد التخلص من منافسٍ مستمرٍّ على الرئاسة، على أن هذا كله لم يكن كافيًا لمنع كلماتٍ أخرى من التيار المقاوم للسيسي، من أن آخر خدمة أبو الفتوح للتيارات غير الإسلامية هي السجن، ولو لم يفعل لما حدث له ذلك، وهي نتيجةُ باطلةُ قائمة على افتراضٍ أكثر بطلانًا، وكأن للكفاح مواصفات ومقاييس خُلقية دقيقة، يجب أن توافق بعضهم فيلتزم الجميع بها، وبالتالي، يعاقب فريق من المكافحين والطغاة معًا الخارجين عليها!
كانا، أبو الفتوح ونائبه في حزب مصر القوية، محمد القصاص، على قوائم المعفو عنهم بقرار رئاسي حتى قبيل الحكم عليهما بساعات
فوجئ طرفٌ كبير من مقاومي السيسي السلميين الذين تخلّوا عن المقاومة السلمية أصلًا؛ وصاروا بلا مهنة تقريبًا سوى الانقسام ومتابعة المصالح الخاصة (إلا من رحم الله)، فوجئوا بمصيبة الحكم على القيادي القائم بأعمال مرشد الجماعة محمود عزت وأبو الفتوح بالسجن المشدّد 15 عامًا، فذهب بعضهم يندّد فيما شمت آخرون، وانحاز لأحد المحكوم عليهما وذامّا الآخر، ثم عما قريب وقليل زمان يتناسون الأمر برمته، حتى يفيقوا على مأساةٍ جديدةٍ ربما أكثر عمقًا وجراحًا واستنزافًا للبشر (وهو ما لا نتمنّاه)، وهم، في جميع الحالات، لا يملكون إلا الكلمات المندّدة غير مدركين أن السيسي وضع عزت وأبا الفتوح في خانة واحدة، فحكم عليهما بالحكم نفسه، وجعل القاضي يتلو الحكم عليهما بترتيب الأكبر سنًا (يقارب عزّت 78 عاما)، وفيما يرى السيسي الجميع أعداء، يرى جانبٌ من الإخوان (على الأقل) أن أبا الفتوح ليس منهم.
وتبقى أمنية بسيطة، ربما تمنع جهاد الرجل وكفاحه من النسيان، بأن يتدخّل مسؤول كبير خارجي كالرئيس الأميركي جون بايدن، كما أخبرت توقعاتٌ أخيرا، أو يحدّث أيًا كان، فيُصدر السيسي قرارًا بالعفو عن أبو الفتوح والقصاص، ونتمنّى شمول العفو غيرهم من مسجوني الرأي قريبًا، وهو "عفو"، على قسوته ومرارته، يبقى حلًا أخيرًا للمأساة المتزايدة من دون ضوء أفق في نهاية النفق يخبر بإمكانية حلٍّ لها يرحم مصر وأهلها!