لماذا التصعيد في أزمة رفات يحيى حقّي؟
صار لزامًا على نهى، ابنة الأديب المصري الراحل يحيي حقي (1905 ـ 1992) أن تبذل ما تستطيعه من جهد مكثف، لمجرد إنقاذ رفات والدها والمتوفين من أهله من التيه أو الاندثار والانمحاء، بقبول نقلهم إلى مقبرة بديلة بعيدة في محافظة الشرقية؛ ففي حادثة فريدة تكاد تنفرد مصر الراهنة بها، أنذرت السلطات "التربي" (حارس المقبرة) في الأول من ديسمبر/ كانون الأول الجاري بأنه إن لم يجر إخلاؤها خلال أربعة أيام ستأتي إليها آلات الهدم تمهيدا لإزالتها.
تقع المقبرة في حي الخليفة ضمن نطاق العاصمة المصرية، في محيط مقبرة طه حسين، التي أثيرت معركة كبرى بشأنها بدأت في مايو/ أيار الماضي، ثم تصاعدت في سبتمبر/ أيلول، وحسمها الرئيس عبد الفتاح السيسي بنفسه لمّا صرح: "لا يمكن أبدا المساس بأي مناطق فيها مقابر لشخصيات نقدّرها ونحترمها أو مناطق أثرية"، ومن ثم ابتعد التطوير الإنشائي المفترض عن المقبرة مسافة أربعة أمتار. ولذلك توجّهت نهى حقي مباشرة إلى السيسي طالبة منه التدخل، مفترضة أنه لا علم لديه بما يحدث مضيفة: "30 عاماً خُلّد فيها (أبي) رائد القصة القصيرة في مقبرته بالسيدة نفيسة، منذ رحيله في 9 ديسمبر/ كانون الأول 1992، كصاحب المسيرة الأدبية الحافلة. وبدلاً من إحياء ذكراه الثلاثين بالورود، تبدّل الوضع بوضع علامة حمراء على المقبرة تمهيداً لهدمها"؛ وهو ما يطرح سؤالًا بشأن إصرار السلطة على تصعيد أزمة مقبرة حقي بعد نجاة رفات طه حسين منذ أسابيع فحسب؟
قرار إزالة صدر لنحو مئتي جبانة (مدفن) ضمن أعمال التوسعة التي تشهدها القاهرة التاريخية
عاش حقّي عاشقًا للبساطة، فكتب "أنشودة البساطة" عام 1961، وحرص طوال مسيرته ألَّا يتخلى عن أهلها فأحسن التعبير عنهم قصصًا ومقالات، وفي سبيلهم تخلّى عن عمله في السلك الدبلوماسي، سواء في قنصلية جدة أو سفارة مصر في تركيا، وفضل العودة إلى مصر وأحضان العمل الثقافي، فظل سنوات طويلة يكتب في صحيفة "التعاون" التابعة لمؤسسة الأهرام، والموجهة إلى الفلاحين، وكان من أبرز مقتضيات مدرسته الكتابية محاولة تقريب الفصحى لهم من دون إخلال بها، وعدم وضع مفردة زائدة أو بغير موضعها في النص، أدبيّا كان أو صحافيّا. وظلت مصر قمة عشقه، فرفض من أجلها الاستقرار في تركيا، رغم أنها مسقط رأس عائلته، أو حتى السفر إلى فرنسا، رغم أن زوجته الثانية كانت منها، فقد ذاب (رحمه الله) في محبة "آل البيت" ممن استقرّوا بالكنانة، فأبدع عنهم مقالات كتابه "من فيض الكريم"، والمجموعة القصصية "أم العواجيز"، بالإضافة إلى روايته الأولى "قنديل أم هاشم" التي خلَّدت اسمه، وأظهر بها عظيم تقديره مسجد السيدة زينب. ولذلك كله، أوصى بدفنه بمقبرة العائلة قريبا من مسجد السيدة نفيسة، إلى جوار أقاربه موسى ومحمد وإبراهيم حقي، وكان الأول عميدا لمعهد السينما، وكان الآخران كاتبين صحافيين، فضلا عن ملكية العائلة المقبرة منذ نحو مائة عام.
لم تتلق نهى حقي ردا من مسؤول، سواء في المحافظة أو حي الخليفة، فقط رأت بعينيها الجرافات والآلات العملاقة تهدم مقابر قريبة أخرى للبسطاء أو المشاهير ممن لم يجدوا أحدا يتصدّى لها، مثل ما حدث لـ "حوش الصوفية" في مقابر "باب النصر" عام 2017، إذ جرى تجريفه وردمه وهدمه، رغم احتوائه على رفات متصوّفة وزهاد كثيرين، وفيهم 14 ممن تركوا بصماتهم بالعلم، ومن أبرزهم المؤرخ تقي الدين المقريزي، وعالم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون.
تصرّ السلطة في مصر على تصعيد أزمة مقبرة حقي بعد نجاة رفات طه حسين منذ أسابيع
انبرى للردّ على الحملة التي قادتها نهى حقي في الفضائيات والصحف ومواقع التواصل مسؤول رفض الإفصاح عن اسمه، أو موقعه، قائلًا لموقع محلي، أخيرا، إن هناك قرار إزالة فعليّا صدر لنحو مئتي جبانة (مدفن) في المنطقة، ضمن أعمال التوسعة التي تشهدها القاهرة التاريخية، وإنه جرى إخطار الأهالي لنقل الرفات بمعرفتهم قبل عملية الإزالة، على أن يجري تعويضهم بمقابر بديلة. وردّت عليه ابنة الراحل: "كأننا نُقصي أديب مصر الكبير وهو أمر ترفضه عائلة حقي"، وطالبت على الأقل بنقله إلى مقبرة أخرى في المنطقة نفسها التي أرادها قبل وفاته. واقترح مدير مكتبة الإسكندرية السابق، مصطفى الفقي، "إقامة مقبرة للخالدين في مصر؛ لنقل رفات كبار الأدباء والمفكرين إليها"، أسوة بما تفعله دول كبرى. ومعروف أن فرنسا عمدت لتنفيذ الفكرة منذ القرن الثامن عشر فجمعت رفات عشرات من أبرز رجالها، ومنهم: جان جاك رسو، وفولتير، لكن مع عدم التفريط بغيرهم أيضا!
صدقت نهى حقي لما كتبت بعد تلقيها الإنذار: "انتهى السعي.. انهارت القوة.. والغيم حتما ينجلي وشمس الأصيل تشرق حتما بعد الغروب". إنها تنتظر مع المصريين الشرفاء زوال الغمّة، لا بالحفاظ على قبر أبيها فحسب، وإن كان هذا إنجازا، وأقل ما يردّ من جميل لرجل قال عنه نجيب محفوظ، بعد فوزه بنوبل الآداب 1988 إنه أحقّ بالجائزة منه. وإنما تنجلي الغيوم كاملة بزوال نظام الجنرال الذي لم يحافظ على مخلصي المصريين فوق الأرض، أو على أحبابهم تحتها؛ وحرص على إرهاقهم بمشكلاتٍ تهينهم، وهو يكرّر إحداها مع رفات بسطائهم ومشاهيرهم، إهمالا منه، وإثباتا بأنه لا يأبه بأي كان منهم، أو (وهو الأرجح مع يحيى حقي بعد طه حسين) لأن الجنرال الحاكم، على طريقة المخلوع حسني مبارك، يحب تصعيد كبرى المشكلات إلى أقصى قدر، ثم التدخل في اللحظات الأخيرة، لإثبات أنه الوحيد القادر على لملمتها، وترك كثير غيرها يتراكم ويتفاقم!