خطوات متلاحقة في تونس نحو مربّع التسلطية

28 اغسطس 2023
+ الخط -

في سابقة لم يألف التونسيون مثلها، أصدرت وزارات العدل والداخلية وتكنولوجيا الاتصالات، الأسبوع الماضي، بلاغاً (بياناً) مشتركاً موجهاً إلى المواطنين فيه تحذير من مغبّة استعمال منصّات التواصل الاجتماعي في تسريب الإشاعة والافتراء وتشويه "رموز الدولة"، وتهدد بملاحقة كل من يرتكب مثل هذه الجرائم. وتختم الوزارات بيانها بأنها شرعت في تحديد قائمة أولية للمواقع والمجموعات التي ستكون محلّ تتبعات جزائية، للكشف عن "هويات أصحاب الصفحات والمجموعات الإلكترونية التي تقوم باستغلال منصّات التواصل الاجتماعي لإنتاج وترويج إشاعات كاذبة بهدف تشويه السمعة والاعتداء على حقوق الغير والإضرار بالأمن العام والمساس بمصالح الدولة وتشويه رموزها".
كان صدور هذا البلاغ في سياق يكتوي فيه المواطن التونسي يومياً بنار الوقوف طويلاً في طوابير لا نهاية لها من أجل الظفر بالخبز والسكر والقهوة والزيت... إلخ، فضلا عن انقطاع الماء وتردّي الأوضاع المعيشية. الدولة غير مهتمة أصلاً بحلّ هذه  المشكلات، وتعتقد أن ضرب "المحتكرين" والمتآمرين وملاحقتهم كفيل بذلك. إنّها غير مسؤولة عما يحدُث، بل تقدّم نفسها ضحية هؤلاء المتآمرين الذين يعرقلون مسيرة الزحف المظفّر عبر التنكيل بالشعب وتجويعه. ها هي تلقي القبض على نقيب الخبّازين وتستعرض في "تلفزة وطنية"، لم تطأها قدم معارض منذ انقلاب 25 جويلية (يوليو/ تموز 2021)، أطنانا قليلة من الطحين... والناس يصدّقون كل هذه الدعايات، ما دام لا صوت يعلو فوق صوت السلطة.
المتنفّس الوحيد في مواجهة كل هذه الدعاية الفجّة هو الفضاء الافتراضي الواسع الذي ما زال ديمقراطياً: يدخله عموم المواطنين من أجل تقديم سرديّاتهم المختلفة وقراءتهم المفعمة بالسخرية السوداء لما آل إليه بعضهم. ربما تشكّل هذه الطريقة مقاومة سلمية عنوانها الكبير إننا نستحقّ هذا كله لأننا طردنا من بلادنا ذات يوم تجربة ديمقراطية وبعناها بثمنٍ بخس.

كان الناس يأملون أن يقدّم لهم الرئيس قيس سعيّد، وهو ينقلب على الدستور والتجربة عموما، الرخاء

عبّر الناس ذات يوم عن تذمّرهم من التجربة الديمقراطية لأسبابٍ عديدة، وأبرزها ما يرد على ألسنتهم من أنها، أي الديمقراطية تحديدا، لم تُحسّن لهم ظروفهم. استفحلت البطالة، الفوارق بين الجهات ظلت راسخة. خدمات المرافق العامة تراجعت ... إلخ. لذلك كانوا يأملون أن يقدّم لهم الرئيس قيس سعيّد، وهو ينقلب على الدستور والتجربة عموما، الرخاء، بل إنهم عبّروا عن استعدادهم للتنازل عن هذه الديمقراطية التي حمّلوها أوزار كل السيئات التي حدثت. ها هي السنة الرابعة تقترب منذ انتخاب الرئيس، ولا شيء تغيّر، بل على خلاف كل تلك التوقعات الساذجة، البلاد تنهار ولا شيء في الأفق يلوح، حتى نطوي هذا القوس الذي طال.
جديد المربعات التي ظلت شاهدا على أن تونس شهدت ثورة عميقة حرّرت الفضاء العام المادي الافتراضي، شبكات التواصل الاجتماعي فهي نسخة من مجتمع متعدّد إلى حدّ التناقض، مزاجي إلى حد التطرّف أحيانا، ولكن لا أحد تجرّأ خلال عشرية الانتقال على الاقتراب منه. ظلّ مارداً ثائراً. إنها آغورا (تلك الساحة الدائرية التي كان يجتمع فيها فلاسفة أثينا القديمة) كبيرة تتلاقى فيها الآراء المختلفة. لا شك أن انحرافات عدة حدثت: كتائب إلكترونية، محاكمات شعبية إلكترونية، تجاوزات عديدة  في حق الأفراد. لقد أقال "فيسبوك" وزراء وعين مسؤولين كباراً وأماط اللثام عن ملفات... إلخ. مملكة "فيسبوك" التي يأوي إليها التونسيون عجيبة. مع ذلك، كان الناس يأملون ألا تكون المقاربة الوحيدة أمنية، خصوصاً في هذا السياق بالذات الذي تتراجع فيه الحريات الفردية والعامة.

مؤشّرات تؤكد أن "افتتاح السنة السياسية" سيشهد تصعيداً على جبهات مختلفة

المتنفس الوحيد الذي ظل مفتوحاً ومتاحاً هو هذا الفضاء. من يقرأ تعليقات الناس وتدويناتهم المقتضبة يقف على جبال من الصور والتعاليق والتدوينات الساخرة... لا يخلو ذلك من تجاوزاتٍ طبعاً، لكن إحالة الناس على المحاكم بمرسوم لم يستشر فيه الرئيس أحداً سيكون بمثابة ملاحقات طويلة ومعمّمة لكل مخالف.
ظلت الجمعيات والمنظمّات تندّد بذلك المرسوم الذي سنّه الرئيس بعيد انقلاب 25 جويلية، لكن لا شيء تغيّر. كان الناس يعتقدون أن صدوره كان لمجرّد "التخويف". لكن المنظمات ذات الصلة بحرية التعبير تحصي منذ بداية العمل به مئات الضحايا، وها هو العدد مرشّح للارتفاع، والوزارات الثلاث تنظم صفوفها من أجل الهجوم الكبير على أي تدوينةٍ فيها مس من النظام.
قد يكون توقيت صدور هذا البلاغ بليغاً في ظلّ مؤشّراتٍ، تؤكد أن "افتتاح السنة السياسية" سيشهد تصعيداً على جبهات مختلفة: اجتماعية في ظل الخلافات الحادّة بين السلطة ونقابات التعليم وغيرها من الملفات الاجتماعية التي ظلّت معلقة وجهود جبهة الخلاص الوطني في حشد المعارضة من أجل التصدّي لمشروع الرئيس الذي يتّجه إلى فرض نموذج لنظام شعبوي تسلطي، قد ينتهي إلى نسخة شمولية تحصي أنفاس الناس وحتى تدويناتهم في ذلك الفضاء الافتراضي.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.