خريف غضب قادم أم مجرّد أوهام في تونس؟
يسري في أوساط عديدة في تونس، لم تنج منها حتى النخب السياسية والفكرية، اعتقاد مفاده أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتأزمة التي تمر بها البلاد منذ أعوام، والتي استفحلت في السنة المنقضية التي تلت الانقلاب، كفيلة بإسقاط النظام. وإن التحرّكات الاجتماعية الليلية التي شهدتها بعض المدن الداخلية، علاوة على الأحياء الشعبية للعاصمة توحي بأن ساعة رحيله قد أزفت، وأنه بدا عبئاً على من استقدموه، فضلاً عن تحرّج المؤسسات الصلبة للدولة على الذهاب معه بعيداً في طريقه الخاطئ.
تعدّدت ملامح التململ في الأسابيع الأخيرة من مختلف الفئات الاجتماعية، سواء على الأرض أو في الفضاء الافتراضي، في تزامن مع تجاوزاتٍ عدديةٍ حصلت في حقّ فئات مختلفة، بدءاً بمنع النقابات الأمنية صعود الفنان الكوميدي، لطفي العبدلي، أحد مسارح المهرجانات الصيفية في صفاقس. وأبانت الحادثة عن حقائق أسفرت عن وجهها لاحقاً: عودة الأمنيين إلى ممارسات سابقة، خلنا أننا قطعنا معها، ولعل أهمها اعتبار بعض منهم أنهم فوق القانون. كانت تصريحات عديد من قياداتهم صريحة في هذا الشأن، بل عبّر بعضهم أن لهم قانونهم الخاص، وهو مزيج من أعراف وآداب وقيم هلامية، مفادها أنهم لن يقبلوا بفن فيه مسّ بالذوق والآداب العامة، وأنهم ينتمون إلى مناطق بالمعنى الجغرافي وعائلات لا تقبل مثل هذه الأعمال، متحدّين بذلك اسمياً وزير الداخلية ورئيس الجمهورية ذاته. لا تعبّر هذه التصريحات عن مواقف فردية أو حتى جماعية صادرة عن نقابات أمنية، بل يُخشى أن تكون معبرة عن أجنحةٍ تمزّق جهازاً حساساً من أجهزة الدولة، يفترض أن يكون موحّداً خاضعاً للقانون.
الغضب الشعبي لا يمكن أن يؤتي أكله إذا لم تتلقفه القوى السياسية وتهيكله ضمن أفق سياسي واضح
تطوّرت الأحداث في ما يشبه التمرّد، حين دعت نقابات إلى سلسلة من التحرّكات والاعتصامات أمام مقرّات أمنية حسّاسة، نجمت عنها لاحقاً احتكاكات بين فصائل أمنية مختلفة، لها مواقف متباينة، وصلت إلى حد تبادل العنف فيما بينها. ولعل من مظاهر هذا الانفلات الذي مسّ الأجهزة الأمنية ما حدث أخيراً حين أطلق عون جمارك وسط العاصمة الرصاص، فقُتل مواطن على مرأى ومسمع من المارّة، ضمن ملابساتٍ غير دقيقة اندلعت شرارتها إثر ملاحقة لمواطن بشبهة تهريب كميات من السجائر.
يتزامن ذلك كله مع نقصٍ حادّ في مواد غذائية حسّاسة، لعل أهمها السكر والزبدة والوقود، وحتى المياه المعدنية. وتتوقع مصادر عديدة أن يشمل هذا لاحقاً الحليب وبعض مشتقات الحبوب، ضمن موجة غير مسبوقة من التضخم، تجاوزت عتبة 8%، وشملت الخضروات واللحوم. دفعت هذه المناخات المتوترة إلى اندلاع احتجاجات ليلية في بعض المدن والقرى الداخلية، فضلاً عن أحياء شعبية متاخمة للعاصمة، كانت وما زالت حضانة للاحتجاج ومغذّية كل الانتفاضات التي عرفتها البلاد.
عاد الأمل إلى المعارضة، وأصدرت جلها بيانات مساندة، وهي تمنّي نفسها أن يكون هذا عاملاً مساعداً لها على تشديد مواقفها واستنادها إلى الشارع في مناهضة قيس سعيّد، بل استعجل بعضها، حين بدأ الحديث عن مسار تصعيدي سينتهي لاحقاً بمغادرة سعيّد المشهد السياسي. وهذا غير وارد في المنظور القريب، لأسباب عديدة، لعل أهمها غياب أي مستثمر جدّي لهذه الأزمات، حتى ولو تراكمت، خصوصاً أننا نعي جيداً أن الغضب الشعبي لا يمكن أن يُؤتي أكله إذا لم تتلقفه القوى السياسية وتهيكله ضمن أفق سياسي واضح، وهو شرط لا يتوافر حالياً في ضوء تشتت المعارضة وانقساماتها العقيمة، فضلاً عن فقدانها الصدقية. لقد تعرّضت هذه الطبقة لشيطنة مريعة، فقد بمقتضاها بعض هذه الطبقة من صدقيتها.
الحالة الليبية درس بليغ في محاذير التصرّف في الفراغ السياسي ومخاطره
لغياب أي بديل سياسي جدّي وواقعي امتدادات شعبية تنافس شعبيّة سعيّد، أو تفوقها، بقطع النظر عن حجمها الحقيقي، وقد أبانت نتائج الاستفتاء على الدستور عن محدوديتها، من شأن القوى الداخلية، وحتى الخارجية التي جاءت بسعيّد أو رحبت به، أن تتمسّك به، خصوصاً خشية الفوضى، وقد كانت الحالة الليبية وما زالت درساً بليغاً في محاذير التصرّف في الفراغ السياسي ومخاطره.
لا ينتبه النظام السياسي إلى هذه الإشارات الهامة، منهمكاً في الزحف الهادئ على السلطة السياسية، منهمكاً في حيازتها، متوهماً أنه بذلك يحوز قبولاً أبدياً به، وهو ينسى أن من سبقه قد حاز مثل ذلك أو أكثر، ولكن ذلك كله سرعان ما تبدّد. والحال أننا نعيش في السياسة سرعة تصيبنا بدوار مدهش على حد قول الفيلسوف بول فيريليو، في كتاب يحمل تقريباً العنوان نفسه.
خريف الغضب قادم في تونس، ولا ندري أين تصبّ مياهه، ومن هو القادر على تحويل عواصفه وأنوائه إلى غيث نافع؟