خرافات طائفية لبنانية أمس واليوم
درجت في سنوات الحرب الأهلية اللبنانية، بعد انتهاء حرب السنتين (1975-1976) وتحول الاقتتال إلى مرحلة الصفاء المذهبي، مقولة طائفية للغاية، كان معظم قائليها غير طائفيين بالمرّة: "هناك طوائف وطنية وطوائف طائفية". تجرّأ شيوعيون من الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي آنذاك على إطلاق صلافة من هذا الوزن وضميرهم مرتاح، فكثيرون منهم كانوا مسيحيين على الهوية، غير مصابين بكره الذات حتى يشتموا أهل بيئتهم الأولى وناسها وطوائفها. كان المقصود من هذه النظرية العجيبة أن المسيحيين لا يمكنهم، حين يجتمعون في طائفة، إلا أن يكون مشروعهم طائفياً مرتبطاً بخارج ما، كحال المارونية السياسية. أما المسلمون، سنةً وشيعةً، ومعهم الدروز، فإن طائفيتهم وطنية تنبع من الوطن وتصبّ فيه. كلام عدمي كان هدفه تبرير تحالف الشيوعيين مع منظمات مسلحة محسوبة على "الطائفيين الوطنيين"، ومعهم فصائل المقاومة الفلسطينية. ولم تنافس تلك الأسطورة إلا مقولة أحد أشهر منظّري الحزب الشيوعي أيضاً، حسن حمدان (مهدي عامل)، أن الطائفية في لبنان مجرد "وهم أيديولوجي" يجري تصنيعه لإخفاء الحقيقة الطبقية الوحيدة الصالحة لتفسير حروب هذا البلد وانقساماته وتاريخه. وككل أساطير الخاسرين، ذهبت هذه المقولات أدراج الريح، ومعظم من أطلقها وصدّقها قُتل على يد محسوبين على تلك "الطوائف الوطنية"، بعدما أدركوا كم كانت تلك الأهازيج التي عمّموها بائسة.
استذكار كلام من هذا النوع يصلح في أجواء انتخابات نيابية لبنانية جرت قبل عشرة أيام. صحيحٌ أن نتائجها تعمّق الهوة الطائفية في هذا البلد، لكنها أيضاً تفتح ثغرة لتغيير لا طائفي، والأهم أنها تُظهر أين يمكن العمل على إحداث خرق في بلد الطوائف، وأين يستحيل ذلك، على الأقل في المدى المنظور. الطوائف التي سمّاها شيوعيون يوماً، "وطنية"، انقسمت في انتخابات 2022 من حيث قابليتها على تحمّل وجود خارجين عن ديكتاتورية الإجماع: عند الشيعة، خرْق جدار المهيمنين على الطائفة كان صفراً. 27 مقعداً مخصّصاً لهذه الطائفة تقاسمهما الثنائي حزب الله وشقيقه مثلما يسمّيه حسن نصرالله، حركة أمل. نتيجة كانت متوقعة من دون أن يكون ذلك كافياً لمنع ارتكاب اعتداءات ضد كل من سوّلت له نفسه تحدّي اللون الواحد والمليشيا الواحدة والرأي الواحد والسلاح الواحد والقمع الواحد. أما التغيير، فإنه حصل من دون أن تسيل دماء ولا أن يطلق الرصاص عند المسيحيين والسنّة والدروز. هل هذا يتيح الذهاب إلى خلاصات من نوع أن هناك طوائف ديمقراطية في جيناتها وأخرى قمعية في لبنان؟ سيكون ذلك خبل آخر شبيه بتفاهة "الطوائف الوطنية والطوائف الطائفية"، ذلك أن كل طائفة، كلما أرادت أن تؤدي دوراً سياسياً، فإنها بالضرورة ستكون قمعية لأن هدفها سيكون الانتقال من موقع الأقلية إلى مركز الأكثرية. وفي بلدان طائفية حتى النخاع، مثل لبنان، كل الأقليات أكثرية، وكل الأكثريات أقلية. هكذا تجد محتكري الطائفة الشيعية اليوم ممثلين بما يوصف على أنه أكبر مليشيا في العالم، أي حزب الله، كلما انتفخت قوتهم أكثر، ازدادوا غوصاً في خطاب المظلومية الملازم للأقليات، إلى درجة أن الشعار المركزي لحملة حزب الله الانتخابية كان حماية إصبع التهديد الخاص بحسن نصرالله.
الطائفة الشيعية التي كانت رمزاً للتغيير والارتقاء الاجتماعي والطبقي والسياسي والتنوع الثقافي في لبنان، تعرّضت، ولا تزال تتعرّض لأكبر عملية هيمنة ثقافية سياسية اجتماعية مرهونة لدولة أجنبية. حزب الله حوّلها إلى مجموعةٍ عصّيةٍ على التنوّع، وهذا من سمات الفاشية التي عرفتها فئات بشرية أخرى ودفعت أثمانها، مع بلدانها، غالية جداً.
من صفات الطوائف أنها لا تتّعظ من التاريخ، فكيف الحال لو صار نظام دولة دينية توسّعية رجعية مثل إيران الخمينية تعتبر أن خسارة ولاء نائب واحد من أبناء الطائفة الشيعية في لبنان أو العراق، بمثابة مسّ بالأمن القومي الإيراني؟