حين يتبلّد الدماغ
هنالك أحيانٌ تتكرّر إلى ما لا نهاية، تعاد وتعاد، وإنْ بأشكال وفي مواقع مختلفة، إلى أن تُفرغ الرأسَ تماماً من أيّ ردّة فعل. إنّها، كمن يضع فوق الدماغ طبقةً كلسيةً فوق الأخرى، مرّة بعد مرّة، إلى أن يتكلّس تماماً، فلا تعود تأتيه فكرة، ولا تعتريه شفقة أو تحرّكه رغبة، لا يستثيره خطابٌ ولا يؤثّر فيه أمرٌ مهما عظم شأنه أو تدنّى. ثمّة أحيان، يحرن الدماغ، يقف في أرضه كبغلٍ مُحمّلٍ بأطنانٍ، يلقي حمولته أرضاً، ثم يثبت في مكانه، لا يريد أن يتراجع أو يتقدّم، يلبط كلّ طارئ أو جديد يضيف إلى شقائه وألمه، قبل أن يتمدّد في خوائِه مُعلناً رفضه الكلّي استيعاب مضامين جديدة، أخبار تقلق فراغه المُراد، فالذهن أو الفكر أو العقل أو الدماغ، أيّاً يكن اسمٌه، كما سواه، قابلٌ لأن يفيض بما يتلقّاه، فيتجمّد ويتحجّر درءاً لأيّ واردٍ جديد، كما يمكنه أن يذوب ويتحوّل صمغاً لزجاً يتسرّب ببطء إلى الخارج سادّاً كلّ المنافذ إليه.
هذا ما أشعره اليوم بالضبط، وقد درتُ على نفسي طويلاً أسعى وراء أيّ شعور، إحساس، فكرة، انفعال، رأي، فما وقعتُ على ما يحرّكني، يستميلني، يحفّزني، يقرفني، يغضبني، أو يستدعي فيّ أيّ فضول أو سؤال. ووجدتُني أعوم في الخواء، في سديم اللامعنى والتفاهة والفراغ، سابحةً مثل راكب فضائي في عتمة الفضاء، وقد انقطع الحبلُ الذي كان يُوثقه إلى مركبته.
والحقّ يقال، إنّي قمتُ بجولة شبه كاملة على عناوين الصحف والمجلّات، محلّية وعالمية، عربية وأجنبية، فما فوجئت أنّ الدماء لا تزال جارية أنهاراً، والشرّ في العالم متسيّداً حاكماً فعّالاً، والهتاف عالياً، والسجال مُحتدماً. نظرت نحو الأسفل، فإذا بها مدنٌ مُهشّمة، وأبنية مدكوكة مُهدّمة، والناس مجتمعون يرفعون أذرعهم نحو السماء، وهم يحمدون ربّهم الرحيم على كلّ ما يُنزَل بهم من كوارث ومصائب وقتل وخسائر ومجاعة وهوان. شغّلت التلفاز، فالصورة شاهدٌ أقوى تأثيراً من الكلام المكتوب، خاصّة في غياب المُخيّلة واستقالة المشاعر وتبلّدها، ولا بدّ أنّها ستمسّ لدى ناظرها وتراً حسّاساً، لا بد أنّها ستعيد إلى العقل تيّاره الكهربائي مُحدثة صدمة. تنقلّتُ بين عدد كبير من الفضائيات في العالم، واستمعتُ إلى لغاتٍ أفهمها ولا أفهمها، وطالعتني التعليقات المتزايدة المنذرة بأفول الحياة، وبالأخطار التي تتهدّد أمّنا الأرض، وأصغيتُ إلى مُداخلاتٍ تتناول كثرة سكّان الأرض وقلّة مواردها، أو كثرة موارد الأرضِ وسوء توزيعها. شاهدت "ريبورتاجات" عن الزلازل والفيضانات والأعاصير، المتكاثرة هنا وهناك، ورأيتُ ضحايا الحروب من بيضٍ وسود، نساءً وعجائز وأطفالاً. طرتُ فوق مقابر جماعية لا تُحصى، وشاهدتُ أفواهاً تلوك الغضب وتنفث الكراهية والنار، وفيالقَ من جنودٍ يقومون من الموت ويسيرون بأجساد ملأى بالثقوب. شاهدت ما هو أفظع بكثير، ومع ذلك، لم ينقذني من تبلّد مشاعري أيَّ جديد، ولا حتّى رجفة بسيطة، ومضة قشعريرة، رغبة اعتراض أو صراخ، تنهيدة واحدة، مشاعر اختناق، غصّة، جفاف في الحلق... لا شيء من هذا كلّه، ممّا هو معتادٌ عند رؤية أحوال العالم البائسة، أو حتّى عند معاينة ما يسرُّ القلب ويثير فيه فرحاً ما.
تكلّس الدماغ. حسناً، لكن، ماذا عن باقي الأعضاء؟ القلب مثلاً، الذي تتدفّق الدماء فيه لمرأى الأهوال، فيتزايد نبضه حتّى يكاد ينفطر، ينفجر؟ كأنّه هو، أيضاً، انسحب واستقال. الكبد؟ مصفاة الكدر والأفكار السوداء، لا علامة تشير إلى وجوده. المعدة وأعصابها الرقيقة، التي تنقبض لأتفه الأسباب؟ هي، أيضاً، تبدو وكأنّها تلوك راحة الحلقوم، مُصفّحة من الداخل ضدّ أنواع الأحماض الحارقة، التي تدخل من العيون.
ما العمل؟ هل أختبئ في صندوقٍ لا يعبره أدنى شعاع، أم أطلب رقماً قصيّاً في أقصى أقاصي اليابان، أم أخلع النافذة التي في طابقي الأربعين، ومنها إلى سعة الفضاء؟