حكم الأكثرية
واحدٌ من أكبر الوعود التي حملها مشروع إسقاط نظام صدّام على يد التحالف الدولي بقيادة أميركا الذي احتلّ العراق، هو الوعد بحكم الأكثرية، بعيداً عن تسلّط الأقلية الذي مثّله نظام صدّام.
كان كثيرون من النخب المؤمنة بالديمقراطية في العراق يفسّرون "الأقلية والأكثرية" بمعنى سياسي، فالأكثرية هنا هي الإرادة السياسية المشتركة للغالبية من العراقيين، بغضّ النظر عن خلفياتهم العرقية والدينية والمذهبية، وليست تنافساً عددياً بين مجموعاتٍ إثنية مغلقة. وعلى ضوء هذا الفهم، لم يكن نظام صدّام ممثلاً عن طائفة أو عرقٍ بعينه، بقدر ما هو ممثلٌ لجماعة صغيرة بيدها السلطة والثروة والقرار السياسي، على رأسها (ويديرها) شخص واحد هو صدّام حسين.
استخدم صدّام قوميّته ومذهبه وعشيرته وعلاقات القرابة من أجل تدعيم سلطته الشخصية، وليس خدمةً للقومية والمذهب والعشيرة، فلو كان يفكّر بمصالحها لا بمجده الشخصي لفكّر بعواقب مغامراته السياسية على هذه المرجعيات، بما فيها من بشر ومصالح. بالضدّ من ذلك، تعني إرادة "الأكثرية" الاحتكام إلى رأي غالبية المواطنين العراقيين، لا رأي مجموعة صغيرة متحكّمة ومتسلّطة. وهذا ما كان يعد به النظام الديمقراطي وآليات تقاسم السلطة وتوزيع مراكز القرار بحسب الدستور والقوانين، لا الأمزجة الشخصية، ولا الترهيب وفرض الإرادات بقوّة السلاح أو الابتزاز.
في ظلّ نظام ديمقراطي حقيقي، ليست الأغلبيات والأقليات السياسية ثابتة، فيمكن للأقلية اليوم أن تغدو أكثرية غداً وبالعكس، كما أن التفويض لجماعة صغيرة بصلاحيات الحكم وإدارة البلد يمكن أن يُسحب منها في دورة انتخابية لاحقة، ولا معنى للأغلبيات والأقليات خارج نظام الاقتراع العام.
في ظلّ نظام ديمقراطي حقيقي، لا معنى سياسي للانتساب إلى أقليات أو أكثريات عرقية أو مذهبية داخل البلد، لأن الكتلة الاجتماعية للمذهب أو القومية ليست تنظيماً سياسياً، والزعماء التقليديون للمذهب أو القومية لم يأخذوا تفويضاً سياسياً من كل الأفراد المنتسبين لهذه القومية أو المذهب.
لم تأخذ هذه الأفكار والتصوّرات التي تبدو بدهية ومنطقية مسارها إلى أرض الواقع. ومنذ البدايات الأولى للنظام السياسي الجديد، كانت النخب السياسية حريصةً على إعادة إنتاج مفهوم الأغلبيات والأقليات إلى معنى طائفي بحت، وجرى ضبط التنوّع السياسي الطبيعي الذي يجري داخل المكوّنات الطائفية والعرقية أو العابر لها نحو الفضاء الوطني، لكي تتأطّر بسياج الطائفة والعرق. وكان من المفارقات المبكّرة أن تم اعتماد "الحزب الشيوعي العراقي" مثلاً أنه أحد مكوّنات الأحزاب الشيعية.
ولم يترك النظام السياسي الجديد للمواطنين أن يحدّدوا الأغلبية السياسية التي يريدونها، وإنما جرى حسمها ابتداءً بأنها أغلبية اجتماعية طائفية. وهو ثلم للديمقراطية، وتكييف لها، لحاجات سياسية من خارج المنظومة الديمقراطية.
انتهى الوعد بحكم الأكثرية إلى إفراغ هذا الوعد من محتواه، وصارت أقلية من زعامات سياسية هي المتحكّمة بالنظام، تفرض رأيها وتوجّهها السياسي بالإرهاب والعنف والابتزاز وتسييس القانون، وهو لا يختلف في جوهره عن حكم الأقلية في نظام صدّام.
انتقلنا إلى حكم الأقلية الحالي بعدّة نقلات على رقعة الشطرنج السياسي ما بعد 2003، كانت النقلة الأولى بتحديد المكوّن الاجتماعي الذي يحقّ له حكم البلاد. وهو تحديدٌ لا علاقة له بمبادئ الديمقراطية كما ذكرنا. وهو يفترض مسلّماتٍ أوليّة عن معنى الطائفة، ومن هم ممثلو الطائفة، وهل الطائفة كيان سياسي أم اجتماعي، وهي كلّها مسائل حسم النقاش حولها سياسياً، وليس علمياً أو أكاديمياً.
كانت النقلة الثانية بتحديد تلك الأحزاب التي تمثّل حقاً مصالح الطائفة (القائدة للبلاد)، وكيف أن أحزاباً أو شخصيات أخرى من داخل الطائفة لا يحقّ لها تمثيل الطائفة، ثم بالنقلة الثالثة نكون وصلنا إلى الصراعات البينية السياسية والعقائدية بين هذه الأحزاب ذات الحقّ (الشرعي) بالحكم، والتي انتهت إلى انتصار تيّار ضد آخر في الحلقة الضيّقة. وهنا تكتمل صورة حكم الأقلية.
ليس لمس "حكم الأقلية" صعباً في عراق اليوم، فتظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول 2019 كانت علامة رفض كبيرة لحكم الأقلية، وتبيّن كل التداعيات اللاحقة الاجتماعية والسياسية شيوع حالة الرفض، أو عدم الرضا، عن سياسات الأقلية الحاكمة. بالإضافة إلى الشعور باليأس عند كثيرين إزاء فاعلية النظام الديمقراطي في العراق في استعادة حقّ الأكثرية بالحكم.