حزب الله يتَنَعَّم بشعارات خصومه .. ولكن

23 ديسمبر 2021
+ الخط -

الطَّحْشة جديدة على حزب الله. الولايات المتحدة، فرنسا، المملكة السعودية. خصوصاً الأخيرة، السعودية، العائدة بعد غياب متأرجح. كأنها في طليعة الطَّحْشة. يكتفي حلفاؤها الأميركيون والفرنسيون بالتنْبيه والتوبيخ والتحذير، مع بعض العقوبات. فيما هي تتصرّف، وفي أكثر المواضع وجعاً. أما لماذا الآن بالذات؟ لماذا تعود السعودية إلى لبنان بعد إهمال؟ ربما لأن الخيوط الإقليمية تجمّعت بين يدَيها، وقوة دفع المفاوضات النووية في فيينا، وما تنطوي عليه من احتمالات تقارب أميركي - إيراني. ربما.

هكذا سُجّلت أولى بوادر هذه العودة: وزير الإعلام اللبناني، جورج قرداحي، قال ما يناقض سياسة السعودية في اليمن، فكانت صفارة الانطلاق السعودية: لا تقبل أقل من اعتذار الوزير واستقالته. وبعدما كابرَ حزب الله وعانَد، وبعدما تفاقمت أخطار ترحيل اللبنانيين من هناك إلى ديارهم المفْلسة.. حصلَ ما أرادته المملكة. وفي هذه الواقعة، علا قليلاً صوت رئيس الوزراء، نجيب ميقاتي، حليف حزب الله، إن "مصالحنا.. وأعمالنا.. تقتضي تلبية السعودية في طلبها".

لم يكَدْ ينتهي هذا المدخل من الفصل الجديد، حتى نظّم حزب الله مؤتمراً صحافياً في معْقله، الضاحية الجنوبية من بيروت. وبدعوة من جمعية الوفاق البحرينية، المعارِضة. والغرض المعلن إطلاق تقرير عن انتهاكات حقوق الإنسان في البحرين. فضلاً عن مشارِكين بحرينيين، فهمنا لاحقاً أنهم هاربون من البحرين، ومقيمون في لبنان. حتى الآن، القصة شبه "عادية" في مملكة حزب الله. ولكنها لم تَعُد عادية الآن، بعد الطَّحْشة. السعودية ما زالت على قرارها بمعاقبة الاقتصاد اللبناني.

أما رئيس الوزراء، فرفع من سقف حرتقته المتَماهِلة مع حزب الله. قبل ذلك، كان يذرف دموع الحزن على "الدولة"، إثر عملية المازوت الأولى التي خرق بها حزب الله الحدود مع سورية علناً.. وها هو الآن يشرب حليب السباع، يتخذ خطوات "قانونية" ضد المؤتمر. يحقّق في تفاصيله، ويُصدر قراراً باتخاذ كل الإجرءات لترحيل أعضاء جمعية الوفاق البحرينية غير اللبنانيين إلى خارج لبنان. استعان بوزير الداخلية الذي هو من "حصته"، وبرّر قراره، بما يضيء على طبيعته الأخرى: التي يربّع بها الزوايا، بعد تدويرها، عندما يشتمّ شيئاً من تبدّل موازين القوى. فوصفَ ما سبّبه هذا المؤتمر من "إساءة إلى علاقة لبنان بمملكة البحرين الشقيقة، ومن ضرر بمصالح الدولة اللبنانية" (قارن أيضاً بين هذا الموقف للميقاتي الآن وموقفه عام 2013، وكان أيضاً رئيساً للوزراء بقرار من الممانعة، عندما دخلت مليشيات حزب الله سورية دعماً لبشار الأسد، فصرخ بضرورة "النأي بالنفس"، مغرقاً رأسه في الرمال).

استباح حزب الله الدولة بأسرها بدستورها وقوانينها ومؤسساتها، من دون أن يرفّ جفن شركائه أو حلفائه

وكما هو منتظَر، هجمَ حزب الله، بأركانه وإعلامه، على حليفهم الميقاتي، فكان حصاده وافراً. باختصار، قالت ألسنته الموزَّعة هنا وهناك بين مواقع تواصل وإعلام رسمي وشبه رسمي وبعض "المسؤولين" في القيادة: أولاً إن خطوة ميقاتي ومساعده وزير الداخلية حلقة في سلسلة "مؤامرة" بدأت العام الماضي مع أحداث خلدة، ثم الطيونة، وأخيراً طارق البيطار، المحقّق العدلي في انفجار المرفأ (نعم هذا الرجل صار عند حزب الله تجسيداً لـ"المؤامرة"). وتابعت هذه الألسن بأن ميقاتي لم يجد نفسه معنياً بأن يخاطب اللبنانيين إلا ليخبرهم عن "الضرر الذي ألحقه المؤتمر الصحافي". مذكِّرة بلبنان "بلد الحريات وملجأ المضطهدين". لبنان الذي "يقمع" وسائل الإعلام اللبنانية، و"يحرمها" التعبير عن مواقفها ضدّ السعودية، وهي في "ذروة توحّشها" ضد الشعب اليمني، وبعدما بدأت مسيرة التطبيع مع إسرائيل... وكرّتْ السبْحة: ميقاتي لم "يحترم الدولة اللبنانية". لم يتبع "الأصول القانونية". ولم يرَ أي حاجةٍ إلى "مؤسسات دستورية" تتخذ قراراً بخطورة إبعاد "أشقاء عرب" (لاحظ "عرب"). وميقاتي كمن ينتظر اعترافاً خليجياً به، ولو كان على شاكلة أمرٍ صادر من السعودية. والاحتفاء بهذا "الاعتراف" يتمّ بالإمتثال للأوامر الصادرة من المنامة، إلخ.

يُستشفّ من هذه الكلمات المبعثرة مواقف جديدة على حزب الله. أقصد مواقف إيجابية من ثلاثة محاور، هي الماركة المسجّلة لخصومه داخل السلطة: أي الدفاع عن حرية التعبير وحقوق الإنسان، وعن مؤسسة الدولة والقوانين والدساتير، وعن الاستقلال الوطني بعدم التبعية للخارج. ثلاثة أقانيم عمل حزب الله على هدمها طوال "مشواره".. هذا التلقّف للثلاثية، لو أُخذ على محمل الجدّ، أو كُتِبَ له الحياة الطويلة، يكون حزب الله قد وقع في الحفرة التي أوقع بها لبنان بأسره.

"استعان" بالخارج حتى الثمالة، ولكن خارجٌ آخر يدخل الآن ويهدّد باختلال موازين قوى بدَت له وكأنها الأبدية. ضرب بالحريات وحقوق الإنسان، في سورية ولبنان، بما حصّله من مناعة إقليمية، فجاء إليه حلفاء بحرينيون يشكون ما يتعرّضون له من انتهاكات، ارتكبها الحزب نفسه، ولا يزال. استباح الدولة بأسرها بدستورها وقوانينها ومؤسساتها، من دون أن يرفّ جفن شركائه أو حلفائه. والآن، يرى في الدولة والقوانين والمؤسسات مظلة تحميه من شرّ "استضعافه"، هو "المنتصر" المتكبِّر المسْتحكم.

ولكن هذه المصادرة للثلاثية هي أيضاً بمثابة النعمة على حزب الله، فبعد استحواذه على قضية فلسطين، ها هو يستعدّ لمصادرة قضايا أخرى. الحرية، الاستقلال، الدولة. ويضرب بذلك أكثر من عصفور على الشجرة. مورد جديد من موارد الشرعية. خيرٌ أو غنيمة، تجمع القمم ببعضها، وتدفع المواطن الموالي إلى مزيد من الولاء، والمواطن المعارض إلى تفحّص كلماته.

يرمي حزب الله أوراق الدولة والحرّيات والاستقلال. وفي الآن عينه، يحمي مطلوبين باسم هذه الدولة وهذا القانون

ومن الآن، يمكن رسم صورة عن مستقبل هذا الاستحواذ الثاني، بعدما شاهدنا مآل الاستحواذ الأول، أي فلسطين: اسم فلسطين فوق، والفلسطينيون تحت.. الآن، سيخرس الجميع، من تحت، وتعلو نغْمات الحرية وحقوق الإنسان والدولة والاستقلال، من فوق. المهم كيف يلعب حزب الله بهذا الثلاثي.. أي كرة يقذفها هنا، أي غبارٍ يفْلشه فرسانه هناك.

هكذا، يوضع وسام آخر على صدره، بعد تيجان "المقاومة". وسام الحريات والدولة والاستقلال. فيما لا شيء في ممارساته يرفع من شأن هؤلاء الثلاث، فيضيف إلى سجله جرم انتحال صفة إضافية: بعد "المقاوِم"، صفة "المناضل" من أجل الدولة والحريات والسيادة. فيقترب لسانه من لسان خصومه من قلب السلطة. ما يغني الحملة الانتخابية بمعايير "مشتركة" معهم. لم يَعُد بوسع الخصوم بعد اليوم الادّعاء بأنهم وحدهم يحملون شعلة "الدولة والاستقلال والحريات"... ومن يعلم؟ قد يكون أولئك الخصوم، بعدما شبعوا براعةً في انتحال صفة "الدولة والقانون والاستقلال"... أضافوا "المقاومة" إلى سجلّهم، ليكتمل بذلك اختلاط الحابل بالنابل.

وفي هذه الأثناء، لا يتخلّى الحزب عن مليشياويته.. كما "دافع" عن القانون، مرّر حزب الله أيضاً عبر إعلامه بأن المعارضين البحرينيين المستهدفين بالإجراءات "القانونية"، مقيمون في الضاحية الجنوبية، وأنه "يرعى" وجودهم هناك. وهو، على كل حال، لم يُصدر بياناً رسمياً عنهم. هو ساكت الآن. لكنه، مثل غيره، يثرثر حيناً، عن الانتصارات والقوة والشكيمة، ويصمت عما يلعب به. يرمي أوراق الدولة والحرّيات والاستقلال. وفي الآن عينه، يحمي أشخاصاً مطلوبين باسم هذه الدولة وهذا القانون... وما المانع من ذلك؟ ما دام الجميع في هذه الجمهورية يقول شيئاً ويضمر شيئاً آخر، ويفعل شيئاً آخر.