حزب الله يُلحّ على استعجال النصر
في خطابه أخيراً، لتأبين أحد قادة حزبه في حرب "الإسناد والمشاغلة" ضدّ إسرائيل، يخطو الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله نحو نصر محتوم لحزبه. ترتفع نبرته عن سابقاتها في أشهر هذه الحرب. لا يترُك لإسرائيل بحراً ولا جوّاً ولا برّاً. لديه "بنك أهداف حقيقي" في إسرائيل، و"قدرة على الوصول إليها". تسلّم سلاحاً جديداً، صنّع بعضَه الآخر. يمتلك "القدرة البشرية الكافية والمتحفّزة والجاهزة"، وقوةً "لم يسبق لها مثيل"، تجاوز عديدها المائة ألف رجل. ومن شدّة حماسة شبابه للقتال تحت إمرته، "يعاني" من "الإخوان" الراغبين بالالتحاق بالجبهة، لا يعرف ماذا يفعل بهم... يمنعهم، أم يسمح لهم "وفقا لما تحتاجه (هذه) الجبهة"؟. (بالمناسبة: هل يمكن لدراسة لغوية أن تحلّل خُطب الحزب وأمينه العام عن الانتصارات التي تحقّقت على يده؟ كيف تنتهي أولى معاركه الكبرى مع إسرائيل منذ 18 عاماً، بإعلان "انتصاره التاريخي الإلهي الاستراتيجي"... ثمّ عقدين تخلّلتهما "انتصاراتٌ" أخرى لا تُحصى، تزدحم بالصفات، وتنتهي عند هذه اللحظة بنصرٍ آخر لم يعد معروفاً أيّ صفة يحمل؟).
بهذه الترسانة الجديدة، يوسّع نصر الله فرجار الخائفين منه، ويضع بلداً جاراً على لائحة الأعداء؛ جزيرة قبرص. فقد وصلت إليه "معلومات" أنّ هذه الجزيرة ساحة مناورات، في مطاراتها ومناطقها، لـ"الحرب على لبنان"، فيهدّدها، في حال استمرّت في هذا المنوال، بأنّه سيعاملها كأنّها "جزءٌ من الحرب"، أيّ كأنّها إسرائيل. نصر الله يتوّج نفسه في هذا الخطاب "إمبراطوراً لبنانياً صاعداً" (العبارة للصحافي أيمن جزيني). إمبراطوريته لا تعرف لنفسها حدوداً، مستنفرة على الدوام للحرب التي تتوسّع أو تتقلّص، تبعاً لـ"الموازين"، لها شروطها، كما في السلم الذي لا تحبّذه.
هذا في واجهة الواجهة، أي ما يحصل ويستحوذ على الأضواء كافّة. أمّا ما بين الكواليس والخشبة، ثمّة كلام "توضيحي، تفسيري"، يطلقه منظّرون من بين رجال نصر الله؛ مؤتمر تعقده إحدى دكاكين السياسة، اسمُه "التجدّد الوطني". عنوانه "من لبنان الساحة... إلى لبنان الوطن". تحضره شخصيات دينية وزمنية تتزعّم طوائفها. والمُنظّر الذي نتكلم عنه هو النائب عن حزب الله في البرلمان، علي فيّاض، وله كلمة تكاد تكون الخلفية الفكرية لخطاب نصر الله. في هذه الكلمة، يقترح فيّاض على الحضور "منهجية جديدة في مقاربة الأزمة اللبنانية"، وذلك "من أجل إعادة بناء تفاهمات وطنية". قوام هذه "المنهجية" أنّ الحضور يجب أن يعي تماماً أنّ "المنطقة أمام صعود جيوستراتيجي لمحور المقاومة"، بسبب "خوضها الحرب ضدّ إسرائيل"، والبديهي ساعتها أنّ الميل الطبيعي للأمور يقتضي "أن يُعاد تشكيل توازنات جديدة في الشرق الأوسط لا خرائط". ثم يستعرض "هواجس الطوائف اللبنانية"، فيقلّل من قيمتها، ويعيدها إلى الماضي، قبل التحوّل الاستراتيجي. الهاجس السنّي والدرزي سخيفَان مفوَّتَان. يبقى الهاجس المسيحي من حماية الوجود المتضائل. والهاجس الشيعي، هو الأسمى، "لأنّه يقوم على حماية الوجود في ظلّ المخاطر الإسرائيلية".
إمبراطوريته لا تعرف لنفسها حدوداً، مستنفرة على الدوام للحرب التي تتوسّع أو تتقلّص
بناء عليه، يقترح فيّاض "حلّاً للأزمة اللبنانية"، يقوم على بنود. الأول، أنّه لم يعد ممكناً بعد اليوم البحث في سلاح الحزب، الذي صار أبدياً، وأنّ العلاقة التي أقامها الحزب طوال السنوات مع الحكومة اللبنانية "تصلح نموذجاً للاستلهام". علاقة يصفها بـ"التكاملية"، إذ يعتقد أنّ "الدور التكاملي لا الاحتوائي ولا التصارعي" بين الحزب والدولة اللبنانية يَصلُح "نموذجاً" ينصح الفلسطينيين باعتماده.
تلك الحكومة الحالية التي ينظر إليها فيّاض بعين الرضا، التي يعود إلى الحزب فضل تشكّلها، ويخضع أعضاؤها ورئيسها وأجندتها إلى إملاءاته. كيف تقوم بدور "التكامل" هذا؟... يحمل الشعار الذي فرضه حزب الله، وأكسب الحكومة ثقة البرلمان، أنّ وحدة مرصوصة تدمج بين "الجيش والشعب والمقاومة". والمقصود بـ"المقاومة"، هنا، حزب الله، ومن منطلق "نموذجيّتها"، تقوم هذه الحكومة بنوع خاص من الشغل؛ تحافظ على معادلة "جيش شعب مقاومة"، التي تتصاعد باستمرار؛ يقرّر الحزب أن يخرق الحدود البرّية؛ أن يخوض حرباً على السوريين؛ أن يعطّل تحقيقات انفجار المرفأ؛ أن يغطّي الإجرام والتهريب والفساد وسرقة الودائع؛ أن ينفرد بإعلان الحرب، كما الآن، والحكومة بين رضا أعضائها واعتزازهم بأنّهم حكومة، وبين الحرج من الداخل والخارج، تُلمْلم نفسها، تصمت، تُمرّر، تعلّق، تنكّس رأسها، تتلقّى عن الحزب لكمات المجتمع الدولي والدبلوماسي، تنتفض قليلاً لماء وجهها، تخوض معه كباشات لطيفة... وعندما لا تعجبه واحدة من إشارات الامتعاض أو الانزعاج، يرفع الحزب شعار "السلطة الحاكمة"، لا "الحكومة"، يهاجمها ويستنكر تواطؤها، كأنّه ليس هو الذي يدير دفّتها.
بترسانة جديدة من الأسلحة، يوسّع حسن نصر الله فرجار الخائفين منه، ويضع بلداً جاراً على لائحة الأعداء؛ جزيرة قبرص
مثلاً، وزير الخارجية اللبناني، الذي لن يبقى دقيقةً في منصبه في حال غضب منه حزب الله، ماذا يفعل بعدما يطلق نصر الله نداء الحرب ضدّ قبرص؟ يتصل بنظيره القبرصي، يشدّد على أنّ بلاده "ليست في وارد التورّط في حرب". والسلطات القبرصية "متفهّمة"، ويبعث مسؤولون قبارصة رسالة بـ"عمق علاقة الصداقة التي تربط البلدين". رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، الذي ابتلع ريقه، مرّات، بعبارة "النأي بالنفس"، عندما شرع حزب الله في خوض المعركة ضدّ الشعب السوري. صاحب التمْتمات المتأسّفة، من وقتٍ إلى آخر، عن "ضعف الدولة"، التي أقام فيها شراكة غير متكافئة مع الحزب، والذي يدير اجتماعات مجلس الوزراء بتعليمات مباشرة، أحياناً، من وزراء الحزب، أو بتفسيره "الذكي" لبعض خطب نصر الله، الذي يشحد من المؤسّسات الدولية أموالاً نهبها بالشراكة أو بالتواطؤ مع الحزب، ها هو، المرّة هذه، وأمام تقلّص دوره أو خدماته للحزب، يقوم بفعل يوصف بـ"المقاوم"، فيستقبل الفنّان المصري عمرو دياب، يتصوّر معه، يشجّعه، في رسالة يريد لها أن تكون واجبه، أو مساهمته "الشجاعة"، في هذه اللحظات التاريخية من عمر جمهوريتنا. نجيب ميقاتي وعمرو دياب، مع جمهور الأخير في وسط البلد، كانا مادّة تحليل صحافي بأنّ حركة ميقاتي "هدفها القول إنّ في الإمكان التمييز، من وقت إلى آخر، بين حكومة تصريف الأعمال من جهة والحزب من جهة أخرى… وإنّ سيطرة الحزب على الحكومة ليست بنسبة مائة في المائة، كما يظهر في مناسبات معيّنة، خصوصاً لدى الكلام عن قرار مجلس الأمن رقم 1701 (يدعو إلى وقف كامل للعمليات القتالية في لبنان، وإلى نشر الحكومة اللبنانية قواتها المسلّحة في الجنوب بالتعاون مع "يونيفيل" بالتزامن مع الانسحاب الإسرائيلي).
ويختم التحليل بأنّ اللبنانيين الذين تحمّسوا للفنان المصري وحضروا حفلته يعبّرون "عن رغبتهم في استعادة الفرح وعن رفضهم لما يمارسه الحزب في الجنوب الذي يعاني الآن من إصرار على تحويله إلى مُجرّد ساحة". فهذا الجمهور، يمتلك "رسالة مقاومة عنوانها الفرح". فحوى الرسالة "إنّ المقاومة المتمسّكة بثقافة الحياة لم تمُت بعد، وهي في مواجهة مع ما يُسمّى المقاومة" (أي حزب الله). جماهير "ترفض الموت وترفض أن تكون ضحيّة أخرى للمشروع التوسّعي الإيراني".
ألم يجد اللبنانيون غير التهييص لمقاومتهم التوسّع الإيراني عبر حزب الله؟ يضربون مع النسيان مواعيد محدّدة، ثم يعودون إلى كنباتهم أمام تلفزيوناتهم، يجترّون اليأس تلو اليأس بانتظار انتصارات كاسحة أخرى للحزب، أين منها خراب البصرة وقوافل عبيدها؟