حرب الإبادة مُستمرّة... والتطبيع مع الصهاينة أيضاً
حرّكت الإبادة الجماعية والمآسي التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة منظّمات حقوق الإنسان وحكومات الدول والجماهير حرّة الإرادة في العالم، وتلّقى الفلسطينيون بالبُشْرَيات والفرح أخبار تظاهرات طلّاب الجامعات الأميركية والعالمية لمصلحة فلسطين، وازداد فرحهم عندما تحقّقت بعض مطالب هؤلاء الطلاب بقطع علاقات معاهدهم وجامعاتهم مع مؤسّسات الكيان الأكاديمية والعسكرية. وهلّل الفلسطينيون وشاركوا صورَ وفيديوهاتِ التظاهرات الحاشدة في عواصم أوروبا وأميركا وأفريقيا والشرق الأقصى، الداعمة لقضيتهم ونضالهم، وكبّروا كلّما حصلت إدانة لكيان الصهاينة، وغيّر كثيرٌ منهم صور ملّفاتهم الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي، وزيّنوها بأعلام جنوب أفريقيا التي جرّت الكيان إلى محكمة العدل الدولية ليُحاكم على ما ارتكبه من جرائم الإبادة الجماعية.
برغم هذه البُشْرَيات، وفي غمرة الأحداث الكارثية التي تعيشها غزّة، تتالت صرخات حرائر القطاع المُحاصر، المكلومات، وفي مدى تسعة أشهر متتالية، مناشدةً زعماء العرب إنقاذ غزّة بعبارة "وينكم يا عرب؟". وعندما يتألّم العربي، أيّ عربي، مهما تعدّدت تسمية بلاده، فإنّ أول كلمة ينطقها هي "أخ" لا شعورياً، يستنجد الأخ أو الأخت بأخيهما، هكذا، بالفطرة السليمة وباللاشعور ناشدت حرائر غزّة المناضلات الصابرات ولّادات الفدائيين رافعي رؤوس العرب، أولئك الذين هزموا الهزيمة المُعشّشة في قلوبهم، ونقلوها إلى أعدائهم لأول مرّة منذ 1948... "وينكم ياعرب"؟ هل من مجيب؟ ... لا، ذهبت صرخاتهن أدراج الرياح، إذ لا حياة لمن تنادي، بل تكاثرَ دعاة التحليل السياسي السلبي، الذين يدينون المقاومة، ويُشكّكون في شرعيّتها وفاعليتها، ودعوا قادتها إلى الاستسلام في فضائيتي دولتين خليجيتين. وفي ظلّ التحريض ضدّ المقاومة الفلسطينية، واستمرار استقبال ممثّلي الكيان في الفضائيات العربية، زاد غمّ الفلسطينيين غمّاً على غمّ، بسبب تتالي أخبار استمرار التنسيق الأمني والعسكري بين الدول العربية المُطبّعة (الإبراهيمية)، وما سبقها مع الكيان الصهيوني، ضمن "محور النقب الأمني"، إذ في 12 يونيو/حزيران 2024 نشر موقع أكسيوس خبراً لمراسله السياسي باراك رافيد مفاده لقاء رئيس أركان الجيش الإسرائيلي اللواء هرتسي هاليفي، في البحرين، نظراءه من جيوش عربية عدّة مطبّعة مع الكيان الغاصب لمناقشة التعاون الأمني الإقليمي بقيادة قائد المنطقة الوسطى الأميركية، بمشاركة السعودية، وهي إشارة قد تعني أنّ السعودية ذاهبة إلى التطبيع، والمسألة مسألة وقت فقط، ولم يغيّر "طوفان الأقصى" شيئاً، بل أجّله. ويقول الخبر أيضاً، إنّ الجنرال الصهيوني "شكر رؤساء الأركان العرب على دور بلادهم في التصدّي للهجوم الجوّي الإيراني"، وبحسب الموقع، أضاف هاليفي أنّ "هذا يؤسّس مزيداً من التعاون في هذا المجال".
في الوقت نفسه، صرّحت نائبة السفير الإسرائيلي السابقة في مصر، روث ويسرمان لاند، في مقابلة تلفزيونية، أنّ "السعودية والإمارات، ودولاً أخرى، لا يريدون وقف إطلاق النار، وأنّ مواقفهم في العلن ليست كما هي في السرّ". بمعنى أنّ السعودية والإمارات تطالبان الصهاينة بعدم وقف إطلاق النار إلا بعد القضاء على حركة حماس والمقاومة الفلسطينية المُسلّحة في القطاع بشكل عام. وهذا القول يتطابق مع مطالبة بنيامين نتنياهو، في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، زعماء العرب بالصمت، إذ قال لهم "إذا كنتم تريدون حماية سلطاتكم ومصالحكم عليكم أن تفعلوا شيئاً واحداً فقط. هو أن تبقوا صامتين"، بمعنى أنّ ما يجري لمصلحتكم وأنتم تعلمون ذلك. هذه المعلومات كلّها جاءتنا من مصادر صهيونية أو أميركية، أي إنّ المصادر الإعلامية العربية لا تذكرها، باستثناء بعض القنوات والمواقع الإخبارية العربية التي تنقل عن تلك المصادر، وهذا ينطبق على أحداث أخرى، أكثرها أهمّية الممرّ البري الذي يربط بين الإمارات والأردن، مروراً بالسعودية، إلى دولة الكيان، ويحمل كلّ ما تحتاجه إسرائيل من مواد كانت تحملها سفنها وسفن حلفائها عبر البحر الأحمر، قبل أن يوقفها الحوثيون بمنعهم السفن المتوجّهة إلى ميناء إيلات من المرور عبر باب المندب.
لم يكن مقبولاً أن يكون العربي وسيطاً في الصراع مع العدو الصهيوني، فما باله ينقلب إلى حليف للعدو؟
خبر آخر نقله موقع غلوبز الإسرائيلي في 22 يونيو/ حزيران 2024 مفاده أنّ سفينة إنزال تابعة للبحرية الإسرائيلية، توقّفت في ميناء طنجة للتزوّد بالإمدادات والمؤن والوقود، أثناء الإبحار بين الولايات المتّحدة وإسرائيل، قبل مواصلة رحلتها إلى ميناء حيفا في فلسطين المُحتلّة. وكشف الموقع نفسه أنّ إسبانيا رفضت استقبال سفن إسرائيلية محملة بأسلحة في موانئها، ونقل الموقع أنّ وزير النقل الإسباني أوسكار فوينتي أعلن قبل نحو شهر أنّ سفينة الشحن ماريان دانيكا، التي ترفع العلم الدنماركي، وطلبت الرسوّ في ميناء قرطاجنة الإسباني، رُفِضَ طلبها لأنّها، بحسب صحيفة الباييس الإسبانية، كانت تحمل 27 طناً من المتفجّرات ووجهتها إسرائيل. وأشارت مصادر عبرية إلى أنّ وزارة الحرب الصهيونية تخلّت عن مطارات إسبانيا والبرتغال في رحلاتها إلى الولايات المتّحدة، واستبدلت بها مطار طنجة المغربي، وميناءها. وفي 24 يونيو/حزيران 2024 نشر موقع كول هحدشوت الصهيوني صورةً قال عنها إنّها للحظة وصول عشر طائرات عسكرية مغربية إلى تلّ أبيب. وكان باحث وأكاديمي عُماني قد تحدّث في الأسبوع الثاني لحرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزّة أنّه راجع وزارة الخارجية اليابانية، التي كان في زيارتها، وعلى علاقة طيبة بمسؤولين فيها، بشأن موقفها المساند لدولة الصهاينة في مجلس الأمن الدولي، فأخبروه ما أصابه بالصدمة، وهو أنّ "موقف اليابان في البداية كان الانتظار والترقّب بانتظار موقف عربي رسمي واضح خاصّة من الدول العربية الوازنة، التي تملك علاقة اقتصادية مهمّة مع اليابان، إلا أنّ هذه الدول (الخليجية) فاجأت المسؤولين اليابانيين بإخبارهم أنّها تقف إلى جانب إسرائيل، وأنّها تؤيّد هذه الحرب على قطاع غزّة، ومعنية بهزيمة حركات المقاومة فيها".
تقول الوقائع المُسجلة إنّ العلاقات الاقتصادية بين الدول العربية الإبراهيمية والكيان الصهيوني لم تتأثر خلال الحرب، برغم كلّ الفظائع التي ارتُكِبت، فقد صرّح وزير الاقتصاد والصناعة الإسرائيلي نير بركات لوكالة رويترز، خلال المؤتمر الوزاري الـ13 لمنظّمة التجارة العالمية، الذي عقد في أبوظبي يوم الثلاثاء 27 فبراير/ شباط 2024 أنّ العلاقات مع الدول العربية لم تتأثّر بالحرب في غزّة، وأضاف "الأمور مستقرّة للغاية. أعتقد أنّ الزعماء يدركون أنّ لدينا الهدف ذاته وهو التعاون سلمياً". وقد أظهر تحقيق مشترك لموقعي ميدل إيست آي البريطاني وعربي بوست، في 24 يونيو/ حزيران 2024، أنّ مئات المنتجات الغذائية التي تُصنّعها شركات عربية، وتحمل علامة كوشر اليهودية، تصل باستمرار إلى دولة الاحتلال، رغم الحرب على غزّة ودعوات المقاطعة، وتبيّن أنّ "شركات مصرية ومغربية تتصدّر قائمة الشركات العربية التي تصل منتجاتها الغذائية إلى الكيان الصهيوني؛ مصر 37 شركة بإجمالي 206 من المنتجات، والمغرب 25 شركة بـ13 منتجاً. إضافة إلى شركات من الأردن والإمارات والسعودية وتونس، و3376 منتجاً غذائياً من شركات في دول عربية وإسلامية.
الوقائع المُسجلّة تقول إنّه لم تتأثّر العلاقات الاقتصادية بين الدول العربية الإبراهيمية والكيان الصهيوني خلال الحرب رغم كلّ الفظائع
السؤال هنا، أنّه في ظلّ مواقف دول غير عربية تبعد آلاف الكيلومترات عن منطقة الصراع الفلسطيني الصهيوني، والعربي الصهيوني، مثل كوبا وكولومبيا والبرازيل وبوليفيا ونيكارغوا والمكسيك، وبالطبع جنوب أفريقيا، بل تركيا وإيران وإسبانيا وإيرلندا وسلوفينيا، وغيرها من الدول، التي لا يُشكّل المشروع الصهيوني خطراً مباشراً عليها، بالمفهومين الأمني والعسكري، لكنّها انحازت للإنسانية ووقفت مع الحقّ والعدل، وقطعت علاقاتها الاقتصادية والتجارية، ومنعت رُسوَّ سفنها رغم تهديدات الصهاينة وحلفائهم الأميركيين والأوروبيين لهذه الدول وزعمائها، فمتى سينحاز النظام الرسمي العربي لكرامته وعروبته ولإسلامه ويقف مع فلسطين، ومع مُقدّساته وأبناء قومه المظلومين والمشرّدين، وأصحاب الحقّ في الأرض والوجود، أحراراً في وطنهم فلسطين؟ لم يكن مقبولاً أن يكون العربي وسيطاً في الصراع مع العدو الصهيوني، فما باله ينقلب إلى حليف للعدو؟ هل من تفسير لهذا التحالف الذي لم يتوقّف بل حتّى لم ينقطع للحظة بين تلك الدول المُطبّعة ودولة الصهاينة؟... لا يمكن تفسير ذلك إلا من خلال المصالح الأمنية المشتركة، وتبعية هذه الأطراف المُطلقة للولايات المتّحدة وسياساتها واستراتيجياتها الأمنية والعسكرية والاقتصادية على حساب الأمن القومي العربي، وقناعة حكّام هذه الدول، أُسَراً وزعاماتٍ وجنرالاتٍ، بأنّ مصيرهم في استمرار هذا التحالف.
تقول نكتة ساخرة إنّ شاباً عربياً تزوج فتاةً أوروبيةً غربية، وأقنعها بالإسلام، فآمنت والتزمت بالفروض وبكلّ ما تنص عليه الشريعة الإسلامية، وكان يحدّثها عن فضل الإسلام ومنافعه، وما يميّزه عن غيره من الأديان، فآمنت أحسن الإيمان، وتحجّبت في بلادها، رغم اعتراض بعض أهلها وأصدقائها، وسافرت يومأ معه إلى بلاده، فوجدت أهله لا يلتزمون بتعاليم الإسلام، وإنما إسلامهم هو فقط بالهُويّة، فسألَتْه مُستغربةً، ساخرةً، متى سيسلم أهلك يا زوجي الحبيب؟... ربما تشبه هذه النكتة حال بعض الأنظمة الرسمية العربية في أيامنا الحالية. "الكلّ" الفلسطيني والشعبي العربي وأحرار العالم يترقّب تطورات دولية وأممية وعالمية لمصلحة فلسطين، بينما لا يعاني الفلسطيني من الصهيوني فحسب، بل من أشقائه الذين تخلّو عنه وتحالفوا مع عدوّه ومنحوه شبكة أمان. للأسف، كلّما ظن الفلسطيني أنّه مسنود عربياً وجد أنّ ما يتّكئ عليه هو جدار على جرف سرعان ما ينهار، إلّا من رَحِمَ ربّي، ولنتصوّر لو لم يساند حزب الله والحوثيون غزّة في هذه الحرب، ماذا سيكون مصير غزّة؟ هل كانت مقاومتها ستصمد إلى اليوم؟ الصهاينة يقولون لا، والعقل يرجّح ذلك.