بوتين بعد خطاب الضم... روسيا أو روسيا أكبر
ألقى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خطابًا أمام الجمعية الفدرالية الروسية (البرلمان)، يوم 30 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) خطابا طويلا سوفياتي الملامح، من دون الحاجة إلى استخدام كلمة إمبريالية في وصف الولايات المتحدة وبعض الغرب، كما في الخطاب السوفييتي القديم، فالهدف الغربي، بحسب بوتين، تحويل روسيا دولةً تابعة للولايات المتحدة وسرقة ثرواتها. خطاب سوفييتي بمسحةٍ إمبراطوريةٍ إيكاترينية، لا يدّعي إحياء الاتحاد السوفييتي السابق، لكن يؤكد أنّ حل ذلك الاتحاد كان خسارةً كبيرةً بفعل مؤامرة غربية. "نريد إسقاط النظام النازي" في كييف. كان ذلك خطاب بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا في شباط/ فبراير الماضي، وفي الوقت نفسه، "نريد مفاوضة هذا النظام ونطالب أوكرانيا بوقف القتال". "نريد كييف محايدة"، لكن لا بأس من ضم أراضيها ذات الثروات الهائلة في شرق أوكرانيا وجنوب شرقها. هذا كله اقتباسات من خطابات بوتين.
أصبحت أكثر من 20% من مساحة البلاد الأوكرانية روسية بعد قرار الضم، ومحمية بالأسلحة النووية في حال الاعتداء عليها، كما هي باقي أراضي روسيا، وهذا القرار لا رجعة عنه بحسب الرئيس الروسي. تحدّث بوتين عن الاستعمار الغربي واستغلال الدول الأخرى، رغم أنه، منذ عام 2008 في جورجيا و 2014 في أوكرانيا، يمارس سياسة توسّع وهيمنة على جيرانه، ويمنع جمهوريات حكم ذاتي ضمن الاتحاد الروسي من الانفصال على أساس قومي بقوة السلاح، بينما يسمح بتشكّل مزيد من الجمهوريات الانفصالية بدعمٍ من آلته الحربية في الدول المجاورة. ويبدو، إن الزعيم الروسي يوصل رسائل إلى كل الجمهوريات التي انبثقت عن تفكّك الاتحاد السوفييتي السابق، إما أن تحتفظوا باستقلالكم وسيادتكم بشرط الهيمنة الروسية على قراركم السياسي والدفاعي، أو سنفصل عنكم بعضا من أقاليمكم ذات الحكم الذاتي لأقليات أخرى. من غير الواضح إلى من وصلت الرسائل من دون حرب، ربما إلى كازاخستان أو أوزباكستان أو تركمنستان أو غيرها من جمهوريات رابطة الدول المستقلة؟ الناجي الوحيد هي جمهوريات البلطيق الثلاث؛ إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، أعضاء الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. أما بقية الدول، فستقف أمامها حرب بوتين في جورجيا وأوكرانيا ماثلة؛ من يتمرّد على الهيمنة الروسية سيلاقي مصير أوكرانيا. لم يقل بوتين ذلك في خطابه الموجّه إلى إخوة روسيا في الاتحاد السوفييتي السابق بعباراتٍ صريحة، إلا أن ذلك كان بيّنًا.
تغيّرت الحدود في عقل بوتين والنخبة الروسية الحاكمة، لكنها لن تحظى باعتراف أوكراني رسمي ولا غربي ولا من الأمم المتحدة
من غير المتوقع تمرّد دول جديدة على روسيا بالاتجاه غربًا، لكن الحرب الروسية الأوكرانية إذا أسفرت في المستقبل عن نتائج مختلفة عما هي عليه اليوم، هل هذا ممكن؟ فقد يمثل إعلان بوتين ضم الأراضي نهاية الحرب أو بداية نهايتها. ربما يكون ذلك صحيحا نظريًا، فأوكرانيا لن تستطيع القتال فترة طويلة في ظل إغلاق أجوائها وموانئها، واستنزاف اقتصادها وشعبها. كثيرة هي العواقب التي تحمّلتها أوكرانيا خلال الحرب المستعرة، لكن في لحظة ما سيفكّر الساسة أو العسكريون بأن هدنة طويلة لا بد منها، وقد تصبح هدنةً سنواتٍ لا أشهر. وقد تُلاقي المناطق التي ضُمّت مصير شبه جزيرة القرم، أو جزر الكوريل التي ضمّتها روسيا من اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية، وبذلك يتأقلم الشعب الأوكراني مع واقع جديد مفروض عليه بالقوة. تميل موازين القوى لمصلحة روسيا، وقد يحدُث هذا السيناريو بفعل الضغط الأوروبي أيضًا نتيجة أزمة الطاقة. لنتذكّر أن هذه الحرب لم تقع برغبة ألمانيا وفرنسا، بل هي، بحسب وجهة النظر الروسية، حرب أنغلوساكسونية على روسيا، وفي الأفق العين على الصين، بينما تضغط أوروبا في الكواليس على الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، والولايات المتحدة ومعها بريطانيا تضغطان على حكّام كييف، وهي تستجيب للضغوط ولا تستمع لنصائح جيرانها الأوروبيين، وفاتورة الحرب تتضخّم وتكاليفها ستدفعها أوكرانيا مستقبلًا. يرى بوتين أنها حربٌ خططت لها الولايات المتحدة، وبلعت روسيا الطعم وساحة قتالها هي أوكرانيا ومن خلفها أوروبا.
كان جليًا للجانب الأوكراني منذ بدء الحرب هدف روسيا بضم شرق البلاد وجنوبها لتصنع أوكرانيا شرقية في مقابل أوكرانيا غربية
أشعل بوتين الحرب بهدف إبعاد "الناتو" عن حدود بلاده، وبرّر ضم الأقاليم الأربعة الأخيرة؛ لوغانسك ودانيتسك وزابوريجيا وخيرسون، بأن الهدف حماية المواطنين الروس فيها. ولكن هل أبعد تحويل هذه الأقاليم روسية "الناتو" حقًا؟ على العكس، لم يتغيّر إلا خريطة أوكرانيا وروسيا بنظر روسية وبعض من حلفائها أو تابعيها. تغيّرت الحدود في عقل بوتين والنخبة الروسية الحاكمة، لكنها لن تحظى باعتراف أوكراني رسمي ولا غربي ولا من الأمم المتحدة. هي حدود للحرب، لا الحرب الدائرة اليوم فقط، بل الحروب الأخرى مستقبلًا، إذ ليست مطامع بولندا في أراضي أوكرانيا أقل من مطامع روسيا، ولدى المجر أقلية على الحدود في داخل أوكرانيا.
كان جليًا للجانب الأوكراني منذ بدء الحرب هدف روسيا بضم شرق البلاد وجنوبها لتصنع أوكرانيا شرقية في مقابل أوكرانيا غربية، أي إعادة التجربة الكورية بين الشرق والغرب، إذ صنع ذلك التقسيم أزمةً لم تنته منذ أكثر من سبعين عامًا، وحالة حرب قائمة من دون اشتعالها من جديد، وهذا هو مصير الحرب الروسية الأوكرانية، إذ أخذت روسيا ما أرادته، وحصلت الولايات المتحدة على ما أرادته في أوكرانيا وأوروبا. عُزلت روسيا عن أوكرانيا وأوروبا، وخُلخلت أساسات البناء الروسي الألماني الذي كان يهدّد مصالحها الحيوية.
يبدو أن المعركة ستستمر شهورا مقبلة، لكن ملامح الهدنة وشروطها باتت واضحة. خسرت أوكرانيا أقاليم جديدة وارتسمت معالم جديدة في السياسة الدولية، حيث تكوّنت محاور جديدة قلبها روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية وبعض الدول الأخرى الأبعد جغرافيًا عن حدود روسيا، مثل فنزويلا وسورية. ثمّة حرب قادمة قد تتجاوز أوكرانيا إلى ما هو أبعد منها، لكنها شعلة التوتر الدولي حاليًا، إلى أن تشتعل حرب أخرى، أو تعود حرب أوكرانيا بعد الهدنة إلى الاشتعال. ما زالت أوكرانيا تقاتل وتحرّر مناطق جديدة ولن تعترف بالضم، لكن المهم لدى الولايات المتحدة أن تبقى سيدة العالم ربما لعقد مقبل، أو لسنوات قليلة مقبلة، إذا لم يفجرها الأنغليكان من أمثال دونالد ترامب من الداخل. هذا هو المشهد اليوم؛ صراع بين قوى عظمى ساحته شعوب ترغب بالتحرّر الاقتصادي والسياسي، ولكنها بدل أن تتحرّر تنتقل من هيمنة إلى أخرى.