حرائق الغابات والعمر المتبقّي

22 يونيو 2023

جنديان من وحدة الاستجابة الفورية الكندية في غابات بارينغتون المحترقة (11/6/2023/Getty)

+ الخط -

تقترب الحرائق من مدينة تورنتو. رسائل "التحذير" التلفونية تنهال عليّ. تريدني أن ألاحظ "السْموغ"، ذاك الضباب الدخاني المهيمن على السماء، والمصحوب برائحةٍ نفاذة، خانقة وكريهة. يجب إغلاق النوافذ، تجنّب الخروج، عدم تشغيل المراوح ... ومتابعة مجريات الحرائق المشتعلة في المقاطعتين القريبتين، كيبك شرقاً ومانيتوبا غرباً. ينال الاضطراب مني. هذه المرّة ليست مثل سابقاتها في الصيف الماضي، حيث كانت الحرائق ودرجات الحرارة القُصوى بعيدة عني، في محافظة كولومبيا البريطانية، في أقصى الغرب. 
أودّ أن أفهم معنى أن تكون كندا أكثر البلدان تعرّضاً لأزمة المناخ، كما أقرأ؛ المحيط المتجمِّد الشمالي فوق رأسها، وكتله الجليدية العملاقة الآخذة بالذوبان، والمهدِّدة بالفيضانات. ومحيطان مائيان، الهندي والأطلسي. الأول يتناول الشواطئ. والثاني على موعدٍ قريبٍ مع "النينيو"، صاحب الانفجارات الحرارية، والزوابع والأعاصير. وفي قلب كندا، تلك الغابات الشاسعة، التي يضربها جفافٌ قياسيٌّ، فتشتعل نيرانها الهائلة. ولكن هذا لا يمنعني من السفر إلى مونتريال بالقطار. على كل حال، لا يبدو على المسافرين قلقٌ يذكر. زحمتُهم تنسيني "السْموغ" ورائحته. في المقصورة، يجلس إلى جانبي شابٌّ صيني، لنقل إن اسمه تشن، يتكلم الإنكليزية بلهجةٍ بطيئةٍ غير صينية، أفهمها بسهولة. نتحدّث عن العرب والصينيين. وبعد ساعةٍ من إقلاع القطار، يطلع صوت المذيع ليقول لنا إننا سنغيّر مسار الرحلة، بسبب وقوع "حادث" في المحطّة الرابعة، وإننا سنصعد إلى العاصمة أوتاوا، ثم نعود وننزل إلى مونتريال، وسنتأخّر ساعتين ونصف الساعة على موعد وصولنا. 

الدولة الكندية ليست بالجهوزية اللازمة. كشفت الحرائق أعطابها

لا يصدّق جليسي هذا الكلام. يقول إن حريقاً اندلع على طريقنا، وليس حادثاً. وأنا أستجيب لهذا الشك، فأطرح عليه الأسئلة، الواحد بعد الآخر. يتناول "اللابتوب" من شنْطته، يفتحُه على خريطة كندا، ويبدأ بالشرح: الحرائق تحاصر أكبر مدينتين، مونتريال وتورنتو. الأرقام مذهلة: 449 حريقاً، نصفها "نَشِط"، والنصف الآخر خارج السيطرة. التهمت النيران حتى اللحظة 46 ألف كلم مربع، أي قدر مساحة لبنان أربع مرات. ويأخذ بتعداد ما يسمّيها الخسائر "العادية". غير الخشب، غير الأوكسجين، الذي تبثه الأشجار، غير إخلاء السكان القريبين، ودمار حياة أهل البلاد الأصليين، الهنود، سكّان الغابات، في الخيم العَطوب والمعتمدين في غذائهم على ما تحتويه هذه الغابات من ثمارٍ ونباتٍ وخشبٍ. حرائق تنال حيوانات الغابة الكندية، الدبّ الأسود والثعلب والسنْجاب والغزال وأنواع الطيور.
تمتدّ الرحلة سبع ساعات ونصف الساعة. وهي أيضا رحلة نحو أعماق كندا. المعلومات التي ينقلها المسْتر تشن، وأمامه اللابتوب، غزيرة، تحتاج ربما إلى تدقيق، إلى وقتٍ لاستيعابها. لذلك أعود فأراجعها لدى وصولي إلى مونتريال، التي تستقبلنا هي الأخرى بسحابة سوداء في سمائها. 
ماذا يقول المسْتر تشن؟ الدولة الكندية ليست بالجهوزية اللازمة. كشفت الحرائق أعطابها. أعطت مقاطعة كيبيك أولى الإشارات: وحدها جنّدت ستمائة متطوّع ومتطوّعة لمساعدتها على إطفاء الحرائق. وظّفت ثلاثمائة رجل إطفاء. درّبت سريعاً 150 عسكريا من الجيش الكندي للمشاركة في الإطفاء. ولم يكْفها ذلك. طلبت مساعدة دول قريبة وبعيدة: الولايات المتحدة، أستراليا، أفريقيا الجنوبية، نيوزيلندا. وهذه الأرقام بالذات قابلة للمراجعة والتعديل، فالكنديون منقسمون إلى مناطق (13 منطقة)، لدى كل واحدة منها جهازها الخاص المسمّى "حماية الغابات". ولا واحد منها قادر على إحصاء الرقم النهائي لعدد الإطفائيين العاملين على أرضها. وهذه ثغرةٌ صغيرةٌ، أمام الكبيرة، والدارجة في أنحاء العالم: وقوامها أن ميزانيات هذه المناطق كلها تقلّصت خلال ربع القرن المنصرم، فتقلّص عديد الإطفاء وعدده، في خطواتٍ "تقشّفية" متوالية، قضمت ميزانية لوجِسْتيات الحرائق.

السولاستالجيا تعني الشعور بالفقدان والألم الذي تتسبّب به التغيرات البيئية السلبية على محيط الفرد

أيضاً: كندا التي عرفنا بفضل حرائق لبنان أنها ثاني مصدّر للطائرة - الصهريج في العالم. وصانعوها شركتان: "الصناعة الجوية" و"فايكيغ للطيران". ولكن: كما في الصناعات الحيوية كافة، هذه الصناعة ملكية خاصة. أصحابها ليسوا معنيين إلا بالأرباح التي يجنونها من بيع طائراتهم، لا بحاجات أبناء بلادهم الأساسية. كما في مجالاتٍ أخرى، كما في مجال الصحة وقت الجائحة؛ تراجع الدولة عن دورها الأول في تنظيم حياة مواطنيها وحمايتها.
والجديد في الموضوع، على الأقل بالنسبة لي، أن الرياح النشِطة في أثناء الحرائق تجاوزت حدود كندا. بفضل اتجاهاتها، مدينة نيويورك الأميركية، الواقعة على مسافة متساوية مع مونتريال وتورنتو، نالت نصيباً عظيماً من هذه الحرائق. "السْموغ" سيطرَ على سمائها، بلونه البرتقالي العَكِر، وحجبَ شمسَها. وطُلب من سكانها ما طُلب من سكان المدينتين الكنديتين، بعدما تحوّلت في هذين اليومين إلى أكثر مدن العالم تلوّثاً. فأغلقت مثلها النوافذ، وفرضت على سكانها الثمانية ملايين أن يلزموا بيوتهم، كما في أيام الجائحة. والضباب الدخاني هذا سافرَ عبر المحيط الأطلسي، وحلّق في سماء النرويج الأوروبية، البعيدة آلاف الكيلومترات. 
وشاعرة كندية، هيلين دريون، تكتب عن هذا التمدّد الدخاني: "الرياح تُوحّد أقدارنا. الرياح لا تعرف الحدود. نحن مرتبطون ببعضنا، مهما كانت الاستراتيجيات الاقتصادية والتفاهمات الجيوسياسية". وكلمتان جديدتان تدخلان على القاموس النفسي: "السولاستالجيا"، وهي من اختراع فيلسوف أسترالي، اسمه غلين ألبرت. وأستراليا سبقت كندا في الحرائق العملاقة. والسولاستالجيا تعني الشعور بالفقدان والألم الذي تتسبّب به التغيرات البيئية السلبية على محيط الفرد، أو على أماكن في الطبيعة عزيزة على قلبه. يلخّص الفيلسوف هذا الشعور: "إنه الحنين إلى بلادنا، حتى لو لم نبارح منازلنا".

يجب أن تُبْقي في بالك الرياح التي تمحو الحدود، وكذلك المياه والجليد والجفاف

الكلمة الأخرى هي "القلق البيئي"، "الإكو إكزايتي"، وهو العارِض الذي يقول المسْتر تشن إنه مُصاب به، بعدما سألته من أين له كل هذا الاهتمام. يجيبني بكلماتٍ متقطّعةٍ بأنه قلق. وإن قلقه مزيج من الحزن والعجز والضعف والتوتّر الداخلي. وينقل عن تقرير نفسي أميركي أن "الإيكو إكزايتي" هذه ناجمة عن وسْواس تُحدثه الاضطرابات المناخية. ولكنه يرفض نصيحة التقرير بعدم الاهتمام بالمسائل المناخية. ويتابع بأن "ضميره" لا يسمح له بتجاهلها. من واجبه أن يقلق ... 
يجب أن تقلق، لا يجب أن تقلق. يجب أن تختار موضوعات قلقك. أو على الأقل تعطي أولوية لهذا القلق على ذاك. يجب أن تحدّد دور هذا القلق. أن تقيس منافعه. يجب أن تعرف ماذا تستطيع أن تعمل أنت. وماذا يستطيع غيرك أن يعمل. أكان دولتك، أم جيرانك، أم العائشين معك، أم سكان الكرة الأرضية كلها. يجب أن تُبْقي في بالك الرياح التي تمحو الحدود، وكذلك المياه والجليد والجفاف. 
كل هذا يثيره المسْتر تشن، ويبعدني عن متاهاتي اللبنانية المزْمنة. هل يكون المسْتر تشن طليعة جيل قادم، إلى جانب أيقونته "المناخية"، غريتا ثنبرغ؟ لم أطرح عليه السؤال. لم أسأله إن كان يعرف تلك الشابة السويدية. كان عليّ أن أربط بين عمرهما الفتي. أفكر بهذا كله الآن، وأشعر بأن أزمة المناخ تحتاج إلى عمر جديد، فيما أنا الآن في وارد عمري المتبقّي.