"حديث النساء"
لسنا ندري إن كانت الكاتبة الكندية مريام تُويز تروي ما عاشته فعلا. لكنها، على الأقل، تعرف عمّا تكتب! لا بدّ أن تتبادر هذه الخاطرة إلى ذهن من يقرأ روايتها "حديث النساء" (2018)، أو يشاهد الفيلم المقتبس عن الرواية، بالعنوان نفسه، للمخرجة الكندية سارة بوللي، وهو الفيلم الذي استقبله النقّاد بحفاوة كبيرة، وحاز جوائز رفيعة في مهرجانات عالمية عديدة (52 فوزا و154 ترشيحا)، كان آخرها نيله جائزة أوسكار لأفضل سيناريو مقتبس (2023). فقد ولدت الكاتبة، بالفعل، لأبوين من طائفة "المينونايت"، طائفة معمدانية مسيحية تتّبع قوانين متزمتة جدا، وتعيش معزولة عن العالم اجتماعيا وثقافيا، وهي قد انفصلت عن عائلتها ومسقط رأسها في سن الـ 18، لتحصّل تعليما عاليا في حقلي السينما والصحافة.
تستند الرواية إلى أحداث واقعية عُرفت بـ"قضية الاغتصاب الجماعي المتسلسل بالغاز"، وحدثت بين العامين 2005 و2009، في مستوطنة المينونايت البوليفية القائمة في مستعمرة مانيتوبا الكندية، حيث جرت عمليات اغتصاب جماعية متسلسلة من عصابة من الرجال، على مدى أربع سنوات على الأقل، وقام ما لا يقل عن تسعة أفراد ذكور من المستعمرة، برشّ غاز أو مهدئ بيطري من خلال النوافذ لجعل الأسر بأكملها فاقدةً للوعي، ثم دخلوا المنازل واغتصبوا النساء والفتيات مخلفين 151 ضحية، من بينهم طفلة تبلغ ثلاث سنوات، وسيدة تبلغ 65 عاما، إضافة إلى ضحايا ذكور بالغين وأطفال...
تتناول الرواية اجتماع ثماني نساء من المينونايت بشكل سرّي، في إحدى الحظائر، في غياب الرجال عن المستعمرة ووجودهم في المدينة، وذلك بعد اكتشافهن حقيقة تلك "الشياطين" المزعومة التي كانت تأتي ليلا لاغتصابهن ونساء المستعمرة مرارا وتكرارا، عقابا لهنّ على آثام وخطايا ارتكبنها! والآن، بعد أن اكتشفت النساء أنهن تعرّضن في الواقع للتخدير والاعتداء من مجموعة من أقاربهن ورجال مجتمعهن، وأن تخييرهنّ بين مسامحة المعتدين أو مغادرة المستعمرة هو إنزال مزيد من العسف والظلم بهنّ، يقررن حماية أنفسهن وبناتهن من الأذى مستقبلا. إنما كيف؟ هنّ لا يملكن أية معرفة بالعالم الخارجي، وكلهن أمّياتٌ وفقيراتٌ، ولا حول لهنّ، وأمامهنّ فقط ساعات معدودة لاتخاذ قرارهن قبل أن يؤوب الرجال.
لكتابة محضر اجتماعهن السرّي ذاك، يطلبن من المعلّم الشاب للمستعمرة ، المدعو أوغست، أن يدوّنَ أقوالهن ونقاشاتهن عن الإيجابي والسلبي في كلٍّ من الخيارات الثلاثة المطروحة أمامهنّ: الأول ألا يفعلن أي شيء ويتركن الأوضاع على حالها، والثاني أن يبقين ويقاومن ويحاسبن من أساءوا إليهن، والثالث أن يرحلن نهائيا عن المستعمرة، إلى عالم جديد وإنما مجهول. في النهاية، وبعد أخذ وردّ ومواقف متضاربة، ولدى اقتراب اللحظة الحاسمة، تجمع النساء أغراضهن القليلة وأطفالهن من الإناث، وأيضا من الذكور ما دون سن الثانية عشرة، ليتحرّك موكبهن مع الفجر ...
تلك الخيارات، وإن تكن مطروحةً في قصّة قد تبدو من الشذوذ والمبالغة بمكان، لن تتبدّى هكذا لكثرة من النساء اللواتي يواجهنها يوميا، فرديا وجماعيا، أيا يكن دينهن، ثقافتهن أو انتماؤهن الجغرافي، حيث يسود العسف والظلم والعنف ضد المرأة، وما أكثره في عالمنا، وما أكثر ضحاياه. أخيرا، لا بد من الإشارة إلى أن ثمّة ما يضع المسائل الفنّية وأدواتها التعبيرية في مرتبة ثانية، للتركيز ربما، وبشكل استثنائي ومشروع، على عمق المضمون أو فحوى الرسالة التي يودّ العملُ الفني، في نهاية الأمر، إيصالها إلى الآخرين؛ وكأنما أيضا لتذكير القارئ، كما المشاهِد، أن للفنّ مقدرة فذّة على مسّ القلوب واستصراخ الضمائر، حين تكون القضايا التي يدافع عنها طارئة وجوهرية، ولا تحتاج تزويقا أو تنميقا لقول فجاجتها أو لشجب فظاعتها التي لا تطاق.