حديث "السيادة"
لا تريد الحكومة العراقية ولا قادة الكتل البرلمانية الحديث بصراحةٍ مع الجمهور العام، لأن الحقيقة محرجة، ويفضّلون، بدلاً من ذلك، الاستمرار بأداء أدوار باهتة في مسرحية متكرّرة، فيؤدون دور المفاجأ من القصف الأميركي على المعسكرات قرب الحدود العراقية السورية، ويصدرون البيانات، ويستنكرون، ويعرفون أنه من الواجب المزعج يجب أن يقوموا به، وستأتي الأيام بأحداث جديدة وينسى الجميع ما حصل.
يتحدّثون عن "السيادة" ويستهجنون انتهاكها من الأميركيين، وهم يعرفون جيّداً أنهم "كطبقة سياسية عراقية" لم يعملوا على بناء هذه السيادة أصلاً... نعم، هم لم يسقطوا السيادة العراقية ابتداءً، ولكنهم، خلال عشرين سنة، لم يعيدوا بناءها. وفضّلوا التعايش مع واقع أنهم يحكمون ويقودون بلداً منقوص السيادة.
ذهبت السيادة أدراج الرياح مع غزو صدّام حسين الكويت في أغسطس/ آب 1990، وفرض الأمم المتحدة عقوباتٍ قاسيةً قيّدت العراق ببنود الفصل السابع واشتراطاته التي انتقصت من السيادة العراقية، وجعلت البلد تحت الوصاية الدولية، تحدّد مبيعاته من النفط، وتستولي على وارداتها وتتيح للعراق أن يشتري بعض المواد ولا يشتري غيرها. وحجبت إمكانية إعادة التسلح، أو حتى استخدام الطائرات المدنية، وغدا مطار بغداد الدولي وغيره من مطارات العراق مجرّد أماكن للأشباح أكثر من عقد. ... انتهى هذا الفصل القاسي من حياة العراقيين، وخرجوا من العزلة الى واقع انتهاك السيادة بشكل كامل، مع احتلال البلد من تحالف دولي تقوده أميركا.
في أواخر العام 2011 سحب الرئيس الأميركي، باراك أوباما، قوّاته من العراق مع تصوّر أوجزه بالقول "سنبقى شركاء مع عراق يساهم في الأمن الإقليمي وفي السلام، وكذلك ندعو البلدان الأخرى إلى احترام سيادة العراق". وكان يفترض أن يكون هذا الانسحاب بادرة لاستعادة سيادة العراق، بانتظار استكمال دفع التعويضات المقرّة من الأمم المتحدة بسبب غزو الكويت، وحينها سيخرج من إجراءات البند السابع. ولكن قبل أن يتحقّق ذلك، خسر العراق سيادته على ثلث مساحته بغزو "داعش" في يونيو/ حزيران 2014، ثم عاود الطلب من الأميركيين العودة والمساعدة في الحرب ضد التنظيم الإرهابي.
خلال هذه الحرب، تاهت السيادة في تشابك الأسلحة والمصالح وتداخل الجبهات، وتباين خطط الحلفاء والخصوم، وانتهينا الى حال ما زالت فيه أميركا تملك هيمنة في العراق، مع تغلغل إيراني في كثير من مفاصل الدولة العراقية وعلى الأرض.
قبل عامين، في فبراير/ شباط 2022 مرّ خبر خروج العراق من البند السابع، من دون ضجّة أو انتباه كبير، فواقع الحال لا يشي بأننا استعدنا السيادة حقّاً، فهل تملك الدولة العراقية السيادة حقّاً على أراضيها؟ وهل تملك هذه الدولة الحقّ الحصري في فرض الأمن وامتلاك القوّة العسكرية؟ أم أنها تتفرّج على نشاط الدول الإقليمية والدول الكبرى على مسرح العراق، وتقف عاجزة عن منع فصائل مسلحة من استهداف معسكرات عراقية فيها متعاقدون أميركيون؟
الفاعل السياسي العراقي داخل الدولة وخارجها لا يستطيع الطلب من أميركا أن تكفّ يدها وصواريخها، ولا يستطيع طلب ذلك من وكلاء إيران في العراق، ولكنه قادرٌ وبحماسة كبيرة على تدبيج بيانات الاستنكار ضد هذا الطرف أو ذاك، فالاستنكار لا يكلّف شيئاً في نهاية المطاف.
تبدأ استعادة السيادة العراقية من تنظيم البيت الداخلي العراقي أولاً، والتخلص من الجماعات المسلحّة التي لا تملك شرعية قانونية، ثم تكوين رؤية موحّدة تعبر عن إرادة العراقيين تجاه الدور الأميركي المفترض في العراق، وطبيعة العلاقة مع إيران وغيرها من دول الجوار. والعمل على بناء مؤسّسات الدولة وتحرير الاقتصاد والنظام المصرفي المعاق حالياً من تبعات الفساد وتهريب العملة، ومواجهة الجمهور العام بالحقائق الصريحة، من أجل بناء جسور الثقة بالنظام السياسي، وأنه لا يكذب، وإنما يعمل حقاً من أجل مصلحة البلد والمواطنين.