حادثة باريس و"الاستبدال العظيم"
لم يسبق لفرنسا أن عرفت هذا النوع من الإجرام: أن يقرّر فرد، صاحب أفكار عنصرية متطرّفة، ومسلّح، خائف على مستقبل "العرق الأبيض"، النزول إلى الشارع، فينتقي ضحاياه الأجانب عشوائياً، فاتحاً عليهم نيرانه، ومردياً إياهم قتلى. هذا ما نسمعه مثلاً عن بلدانٍ بعيدةٍ بعيدةٍ يتجوّل فيها قتلة مسلّحون، حيث شراء السلاح متاحٌ لمن شاء بمجرّد الحصول على رخصة. في فرنسا، الأمور تختلف أو يُفترض أن تكون مختلفة، والمقتلات التي وقعت فيها تُنسب إلى أفراد أو مجموعات تأتمر في العادة بأمر منظّمات وتشكيلات إرهابية متنوّعة المشارب.
ما جرى أخيراً في 23 ديسمبر/ كانون الأول الجاري مغاير. فالمجرم فردٌ لا ينتمي إلى أي تشكيل سياسي أو حزبي، عامل متقاعد في سكك الحديد، في بداية سبعينياته، ملاحَق (!) لأنه سبق أن اعتدى مرّتين على مهاجرين أفارقة ومسلمين "يلوّثون" أرض بلاده، إما باستخدام الساطور، أو بإطلاق النار من مسدّس أفرغه أخيراً في أجساد مَن وُجدوا أمام المركز الثقافي الكردي وداخله في الدائرة العاشرة، أو في صالون حلاقة للرجال. الحصيلة: ثلاثة قتلى، سيدة ورجلان، وثلاثة جرحى قيل إن حالة أحدهم خطرة، وأحداث شغبٍ تخللت مسيرات الاعتراض الكردية، وتصريحات متضاربة من هنا وهناك، وسجال سيزداد حدّة عن العنصرية وارتفاع منسوب الكره للأجانب والمسلمين، والوجود الأجنبي المستفزّ، والخطاب العنصري المتفلّت من عقاله الذي بدأ يسمّم فرنسا، بل أوروبا كلها، مع فوز أحزابها اليمينية المتطرّفة، وازدياد حدّة الأزمة الاقتصادية، وارتفاع أعداد اللاجئين، إلخ.
لسنا نؤكّد هنا أن هذا الحدث المأسوي مرشّح للتكرار، لكنه حتماً ثمرةٌ معبّرةٌ عن مسار فكري طويل يلخّصه عملٌ مهمّ شاءت المصادفات أن يصدر أخيراً للفيلسوف ومؤرخ الأفكار الفرنسي، بيار – أندريه تاغييف، بعنوان "الاستبدال العظيم أو سياسة الأسطورة"، حيث يتناول نظرية "الاستبدال العظيم" التي يعود منشأها إلى منتصف القرن التاسع عشر والنصف الأول للقرن العشرين، والتي تستند، في الحقيقة، إلى تخيّلات أكثر منها إلى وقائع، حوّلها بعض الكتّاب الفرنسيين تحديداً إلى أدبيات سياسية وتاريخية – فلسفية. في مقدمة هؤلاء أرتور دو غوبينو (1816 - 1882) الذي اعتبر، في عمله المعنون "بحث في لامساواة الأعراق"، أن العرق الأبيض الصافي، الجرماني تحديداً، يتفوّق على العرقين، الأصفر ويليه الأسود، وأن الاختلاط في ما بينها سيؤدّي حتما إلى انحطاط البشرية. هذا، وبحسب تاغييف، فإن دو غوبينو، وهو صاحب نظرية وجود عرق صافٍ في الماضي، هو المؤسّس لإيديولوجيا مرعبة، عنصرية وكارهة للأجنبي، غذّاها من ثمّ مفكّرون فرنسيون وأجانب ما بين الحربين، وأنتجت فكراً كان وراء تعامل عددٍ من المثقّفين الفرنسيين مع النازية.
والحال أن الخوف من الأسلمة قد حلّ مكان الخوف من اختلاط الأعراق، في الخطاب الفرنسي العام، وإن استمرّ حاضراً الربطُ بين موضوعي انعدام الأمن والهجرة. يقول: "لقد تحوّل المهاجرُ الخطير إلى غازٍ مُسلم، واتّخذ انعدام الأمن المتزايد وجه حرب أهلية وشيكة". إنما في الحالتين، يتعلق الأمر، قبل كل شيء، بشرخٍ أو تمزّق في الهوية، إذ يبقى موضوع الخوف "الاستبداليّ تغيير الهوية الجماعية، سواء بيولوجياً أو ثقافياً وحضارياً. "إن التحوّل الكبير هذا من العنصرية العِرقية إلى التمييز الثقافيّ، هو الظاهرة الأهمّ في الوقت الحاضر. بيد أن هذه العنصرية الثقافية التي تنطوي على فكرة تأصيل الثقافات أو الحضارات، قد أُدرجت وأعادت ترجمة الحكايةَ العنصرية القديمة، ألا وهي "صراع الأعراق"، وقد تحوّلت لاحقاً إلى "صدام الحضارات".
أخيراً، لا يعدو التجرّد من العنصرية العِرقية كونه وسيلة بلاغية لدى بعض المنظّرين الأيديولوجيين لتقديم خطابٍ مقبول سياسياً، فباسم الحفاظ على الهوية الجماعية، يُرفَض اليوم التهجين الثقافي ويُتَّهَم بأسوأ الموبقات، كما كان الحال مع اختلاط الأعراق أيام سيادة العنصرية البيولوجية "الكلاسيكية". ولتاغييف أن يعلّق: "لقد انتشرت فكرةُ الصراع الدينيّ بين الثقافات على نطاقٍ واسع، وترتّب عن ذلك النظر إلى التخالط والتهجين على أنهما يُخفيان رغبة استيلاء ثقافة على أخرى"...