06 نوفمبر 2024
جورج فلويد والحادث المؤسِّس
عندما تندلع الأحداث الكبرى في التاريخ، تتراجع إلى المقاعد الخلفية، الواقعة الأصلية التي فجّرت الموقف. تصبح الحادثة المؤسِّسة تفصيلاً، ليست العودة إليها إلا هواية خاصة بالمؤرخين، ذلك أن القضية "ليست قصة رمانة، بل قلوب مليانة" وفق القول الشائع عند أهل بلاد الشام في تصورهم لكل حادث جلل عرفوه أو سمعوا عنه. ومَن هو الذي لا يزال يعطي كبير اهتمام لاغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند عند استعادة الحرب العالمية الأولى؟ أو قصص خلاف بين طفلين أحدهما درزي والثاني ماروني في فهم الحرب الطائفية التي ضربت جبل لبنان وامتدت إلى الجوار في 1860؟ لكن تبقى للحدث المؤسِّس أحياناً، قيمة تنافس في أهميتها تطورات القصة أكانت حرباً، أو ثورة، أو استقلالاً، أو إبادة. ولهواة جسّ نبض التاريخ والحاضر من خلال رصد نقاشات وتعليقات وحملات مواقع التواصل الاجتماعي، أن يتابعوا السجال الذي احتلّ الصفحات والحسابات العربية خصوصاً، فور شيوع خبر مقتل الأميركي الأسود جورج فلويد في مينيابوليس خنقاً تحت أقدام شرطي أبيض طحن عنقه بركبته طيلة تسع دقائق على مرأى المتجمهرين المتفرجين ومن بينهم مصفقون ربما.
سارت القصة على الشكل التالي: دخل صاحب قامة المترين، جورج فلويد (46 عاماً)، الذي جعله فيروس كورونا معطلاً عن العمل، واشترى سجائر ودفع عملة من فئة 20 دولاراً، ثم خرج. اتصل فوراً أحد أصحاب المتجر بالشرطة، وشكا الزبون الأسود بتهمة ترويج عملة مزورة. صاحب المتجر، وهو من آل أبو ميالة، مهاجر فلسطيني إلى جانب شقيقيه منذ عام 1978، كان يعرف فلويد كزبون من المنطقة، على ما يقوله أحد الأشقاء الثلاثة (سمير وآدم ومحمود) في مقابلات صحافية أعقبت الحادثة التي قلبت أميركا رأساً على عقب، وربما تقلبها أكثر في مقبل الأيام. يقول أحد الأشقاء إنه لا يعتقد بأن فلويد كان يروّج العملة المزورة، لكنه لا يفسر لماذا قام شقيقه بالاتصال بالشرطة إذاً؟ جواب عدد كبير من الحسابات العربية على مواقع التواصل الاجتماعي، من المتبرعين بتقديم التفسيرات الجهنمية حيناً، والافتراضية والمنطقية أحياناً، اختصر القصة كالتالي: صاحب المتجر، أبو ميالة، وهو مسلم، افترض السوء بفلويد فقط لأنه صاحب بشرة سوداء، وطوله متران، وضخم البنية، أي أنه تصرف من منطلق عنصري صرف. إذاً، انطلاقاً من الفرضية تلك، يريد مغردون كثر وضع الأصبع على الجرح، وتسمية الأمور بأسمائها: نحن، ونون الجماعة هنا تحيل إلى العرب والمسلمين، عنصريون أيضاً، ولا تزول عنصريتنا فقط إن اختبأنا خلف الحملات ضد فاشيي نخبوية العرق الأبيض أو جماعة الإسلاموفوبيا أو الكزينوفوبيا عموماً. تتمة ملخص تلك الفرضية أن تصالحنا مع حقيقة عنصريتنا، ومكافحة آفتنا تلك، نحن العرب المسلمين (مجدداً)، يجب أن تكون مهمة نضالية تسبق فضح فاشية "الآخرين"، فذاك التاجر، أبو ميالة، لم يكن ليتصل بالشرطة لمجرد الشك بالورقة النقدية المزورة، لو كان زبونه أبيض البشرة، أو سيدة حسناء مثلاً.
من المبكر تقدير كيف يمكن أن ينتهي الانفجار الأميركي الكبير لبرميل العنصرية المتجذرة في المجتمع بعد نصف قرن من إقرار المساواة الكاملة في الحقوق. قد يتطور إلى احتراب أهلي في أكثر بلد ينتشر فيه السلاح الفردي (وهو السلاح الذي يستخدم عادة في أولى مراحل الاقتتال الشعبي). وقد يكون مصيره الانطفاء مثلما انتهت حركة تشارلوتسفيل، أو يسعد أصحاب الحلول الوسطى بالتوصل إلى إجراءات تحافظ على المبنى، لكنها تعالج فعلاً أوجهاً من تلك العنصرية التي تترجَم كل يوم في آلاف الشواهد في الاقتصاد والاجتماع والثقافة والظلم والسلوك اليومي...
وسط غابة العنصرية تلك، لا تندر الأمثلة عن الصادقين من غير العنصريين، كزوجة الشرطي القاتل التي طلبت الطلاق منه، لأنها في الواقعة تلك، تجد نفسها ببساطة إلى جانب جورج فلويد لا ديريك تشوفين.
من المبكر تقدير كيف يمكن أن ينتهي الانفجار الأميركي الكبير لبرميل العنصرية المتجذرة في المجتمع بعد نصف قرن من إقرار المساواة الكاملة في الحقوق. قد يتطور إلى احتراب أهلي في أكثر بلد ينتشر فيه السلاح الفردي (وهو السلاح الذي يستخدم عادة في أولى مراحل الاقتتال الشعبي). وقد يكون مصيره الانطفاء مثلما انتهت حركة تشارلوتسفيل، أو يسعد أصحاب الحلول الوسطى بالتوصل إلى إجراءات تحافظ على المبنى، لكنها تعالج فعلاً أوجهاً من تلك العنصرية التي تترجَم كل يوم في آلاف الشواهد في الاقتصاد والاجتماع والثقافة والظلم والسلوك اليومي...
وسط غابة العنصرية تلك، لا تندر الأمثلة عن الصادقين من غير العنصريين، كزوجة الشرطي القاتل التي طلبت الطلاق منه، لأنها في الواقعة تلك، تجد نفسها ببساطة إلى جانب جورج فلويد لا ديريك تشوفين.