جمال حمدان والنيل: رثاء مستعاد
"كانت مصر مبدأ النيل، وانتهى هذا إلى الأبد، وأصبحت شريكة محسودة"، بهذه الكلمات صرخ جمال حمدان قبل ثلاثين عامًا، ولا مجيب.
وقد ترك حمدان بصمة ثقافية كبيرة في مصر، وأصبح اسمه "أيقونة" يتبرّك بها كثيرون، ويتمسّح فيها كثيرون، وتبقى إحدى الحقائق الصادمة أن بعض أهم ما كتبه الرجل ظل مجهولًا، أو متجاهلًا بشكل متعمد، وبخاصة مرثيته المؤلمة لنهر النيل.
وبعض أهم ما كتبه حمدان ليس عمله الموسوعي الشهير "شخصية مصر .. دراسة في عبقرية المكان"، بل ما ورد في كتاب صغير "جمال حمدان: صفحات من أوراقه الخاصة (مذكرات في الجغرافيا السياسية)"، ونشر بعد وفاته الغامضة، يضم جزءًا من أوراق خاصة تركها، وقد جمعها ونشرها شقيقه عبد الحميد صالح حمدان. وقد حُجبت أجزاء كبيرة، لأن "الوقت لم يحن بعد لنشرها، نظرًا لما جاء بها من آراء وأفكار سبق بها جمال حمدان عصره، واتسمت بشجاعة وصراحة معهودتين تحلى بهما طوال حياته"، بنص كلمات الشقيق.
ينتشي بعضهم باستعادة بلاغة جمال حمدان وهو يتغنّى بمصر، وفي الوقت نفسه، يتجاهل هؤلاء مرثيته القاتمة للنهر
في الفصل الأول من الكتاب فقرات منفصلة، وفيها: "مصر اليوم: إما القوة أو الانقراض، فإن لم تحقق مصر محاولة قوة عظمى تسود المنطقة بأسرها، فسوف يتداعى عليها الجميع يومًا ما. والمشرق العربي خاصرة العالم الإسلامي المحصورة بين البحار الخمسة: المتوسط، الأحمر، العربي، الأسود، الخليج". وفي فقرة تالية: "الطبقة الوسطى (اجتماعيًا) هي المضطهدة من أعلى ومن أسفل على السواء. والغرب يحارب ويطارد العرب وأبناء الشرق الأوسط". وبلغة تتصاعد منها ألسنة لهب القلق يقول: "هناك متغيراتٌ خطرةٌ تضرب في صميم الوجود المصري، من حيث المكانة والمكان معًا: أصبحت أرض مصر معرّضة للتآكل الجغرافي لأول مرة في التاريخ، وإلى الأبد، إذ تحولت من عالم متناهٍ إلى عالم متآكل بفعل الإنسان، ... ... وستصبح بلورة مكثفة حتى الموت البيولوجي. ولأول مرة ظهر لمصر منافسون ومطالبون ومدعون هيدرولوجيا. كانت مصر مبدأ النيل، وانتهى هذا إلى الأبد، وأصبحت شريكة محسودة، ... ... مع كل هذه الانكماشات والانزلاقات الداخلية والذاتية، أتت الكوارث الخارجية بالجملة. فالمتغيرات الداخلية تخرب المكان والمتغيرات الخارجية تخرب المكانة". وتبقى العبارة الأقسى في مرثيته للنيل: "ذهبت أيام الغرق وجاءت أيام الشَرَق"، وهو جفاف الأرض.
وبينما الدراسات المستقبلية تخطو بقوة في مختلف عواصم العالم، وتسهم في تحديد وجهة القرار السياسي، نتعثر نحن في رؤى قاصرة وقصيرة النظر، فالمكتوب قليل، والقليل المكتوب لا يكاد يجد قارئًا، والمستقبل محجوبٌ وراء سحبٍ داكنة، لعل أخطرها: التفكير بالتمنّي، والانشغال بالخصوم الوهميين في الداخل والخارج، والهرب إلى تمجيد الذات.
المستقبل سيظل، كالتاريخ، يتدفق كالنهر الذي لا يريد أحد أن "يصدّق" أنه يمكن أن يتوقف عن التدفق
والنقطة التي وصل إليها مسار التحول الدرامي في تاريخ النهر الذي كتب الفصل الأهم في تاريخ مصر، وجودًا ومكانًا ومكانةً، حصيلة خيارات العجز الكاره للحقيقة، والهرب النرجسي من الواقع المتصدّع إلى خيالات الماضي المجيد. ولقد قضي الأمر وأصبح النيل هدف معركةٍ لم يربحها المصريون، لأنهم لم يعترفوا عقودا بوجودها أصلًا. وقد كتب جمال حمدان، وآخرون، ولم نقرأ. وبعد ثلاثين عامًا من إطلاق الأكاديمي الكبير صيحته "ناعيًا" النهر العظيم، بقي اسمه يردّده بعضهم رمزا للوعي التاريخي العميق، لكنه، للأسف الشديد، "وعي محنط". ينتشي بعضهم باستعادة بلاغته وهو يتغنّى بمصر، وفي الوقت نفسه، يتجاهل هؤلاء مرثيته القاتمة للنهر.
والمنطق الانتقائي في استعادة ما كتب جمال حمدان هو نفسه المنطق الانتقائي السائد في التعامل مع حقائق الواقع الراهن، حيث الماضي العريق كافٍ لمواجهة معضلات الواقع المتخم بالألغام. والمستقبل سيظل، كالتاريخ، يتدفق كالنهر الذي لا يريد أحد أن "يصدّق" أنه يمكن أن يتوقف عن التدفق. ومن يعجزون عن تصديق ذلك يفضلون أن يستعيدوا ما كتبه جمال حمدان عن العبقرية والعظمة، وأن يتجاهلوا، عمدًا، ما في أوراقه بعد وفاته بثلاثين عامًا.