جريمة ضد الإنسانية: سيلفي
لن ترحمَنا تلك المشاهد، ستبقى تلاحق أعمارَنا وضمائرنا، تعلق بين خلايا أدمغتنا، تعشّش فيها وتبقى تهسّ كما تهسّ كائناتٌ صغيرةٌ تعيش في أجسادنا ولا ندري بوجودها. مشاهد تتراكم فينا، كما تتراكم السموم في الأعضاء حتى خنقها، كما تسيل الماغما (الصخور السائلة) الحارقة فوق السهول الخضراء فتمحو معالمها.
مشهد الصغيرة التي بقيت سبع عشرة ساعة تحمي رأس أخيها الصغير، وهما عالقان تحت جدارٍ هوى عليهما كأنما ليطحنهما كما فعل بالآلاف من قبل، ثم في اللحظة الأخيرة رأف بهما الحجرُ فقرّر حمايتهما. وصل الآخرون إليهما معفّرين بالأتربة والركام وبأيديهم العارية. بقيت هادئة. كانت عيناها مفتوحتيْن صاغرتيْن، وقد فهمتا كل شيء، لذا لا حاجة لاستنجاد أو لصراخ أو تبادل كلام. 17 ساعة تحت الرّدم كانت كافية لتفهم الصغيرة كل الموضوع، من ألفه حتى يائه، من دون صراخ أو بكاء، لقد فهمت وقرّرت أن تتحمّل وتنتظر. لا حيلة لها سوى الاستسلام للموت... أو للحياة.
مشهد الأب الذي يودّع ابنته الصغيرة سالي ويطلب الرحمة لروحها. سالي الطفلة الجريحة مفتوحة العينين. أجل، إنها على قيد الحياة، وها إن عينيها تنظران وترمشان. لكن والدها يودّعها ويطلب منها المغفرة ويقرأ الفاتحة على روحها ليقينه أن رحيلها حتمي. فلا مساعدات طبّية ولا إسعافات ولا أدوية، عجز فقط. عجز بحجم الجبال. الوالد يُعلِم ابنته أنها ستموت، وأنه ربما سيتبعها. لا يقول لها لا تخافي، لا يطمئنها، لا يقول إنه هنا، معها، ولن يحصل لها أيّ شيء، إنه سيحميها وإنها ستنجو وتكبر، إن أياماً أفضل تنتظرها وإنّ كل شيء سيكون على ما يُرام. "سامحيني يابا" يردّد "ما قادر أعملك شي، الدبّابة جنبنا، الله يرحمك يابا... فدا الوطن، يمكن أستشهد وألحقك ونرتاح من هادا العالم الظالم، هادا العالم ظالم يابا، ظلمنا"...
ثم هناك مشهد ذاك الرجل الواقف بقامته الطويلة ومعطفه الداكن، يسعى وراء كلامٍ يهرُب منه وتخنُقه العبرات، فيحرّك يديه المعفّرتين بالردم واللتين تقولان بدلاً عن لسانه، قبل أن ترتفعا لتمسحا ماء عينيه. ماذا فعلنا لنستحقّ هذا كله؟ سؤالٌ يلخّص القهر كلّه، ماذا فعلنا؟ سؤال يرميه كصنّارة في وجه العالم، في وجه السماء، نحو جهنم حتى، باتجاه النجوم، إلى التراب، إلى الحجر والشجر والبشر، ما-ذا- ف -ع- لنا؟ وحتى الذين فعلوا، لا يستحقّون أن يكونوا مكاننا وأن يعيشوا هذا كله!
ماذا تُرانا فاعلين بكل تلك الصور والمشاهد وأين نضعها؟ أين نخفيها وهي تتراكم وتتزايد يوماً إثر يوم، وساعة إثر ساعة؟ ماذا نفعل كي لا تضربنا غرغرينا الاعتياد والبلادة واللامبالاة، أو لكي لا تتسمّم أعضاؤنا بهذا القدر من الغلّ والحقد والكراهية. هذه ليست غزّة المنكوبة فقط وليست فلسطين المسلوبة حيث انفلت الوحوش والبرابرة والقتلة ليعيثوا موتاً دونما رقيب أو حساب. وهؤلاء ليسوا فقط أغراباً عن الأرض أو كذَبة يدّعون ملكية أرضٍ ليست لهم، بل هم مجرمون يفتكون مستخفّين غير عابئين، لأن ثمّة من فعل قبلهم وهم من أهل البلاد، كما حصل قبلاً في حماة أو في حلبجة أو في... ولأن ثمّة من ينأى اليوم ولا يلتفت، أو هو يتفرّج من بعيد.
ضدّ تلك المشاهد التي لا تُحتمل، نسمع أصواتاً غربية ألِفت معاني السلام، بعد أن زرعت فيها دولُها المخاتلة المتنصّلة اليوم، مفاهيم وقيماً إنسانية ما عاد من الممكن اقتلاعُها بسهولة من أفئدة الشعوب. شعوب العالم تتململ، تعترض، تنزل إلى الشوارع وتصرُخ بعدم جواز استمرار المذبحة، هي تسمّي الأشياء بأسمائها، تستخدم العبارات المطابقة والمعبّرة فعلاً عمّا يدور: حرب إبادة ضد الفلسطينيين، جرائم ضد الإنسانية، دعوى في محكمة العدل الدولية يرفعها عنّا الآخرون، فنحن ملهيون بأمور أكثر أهمية ينبغي لنا معالجتها على الفور!
صورة أخيرة: كتب المؤرّخ الفرنسي فابريس ريسيبوتي على منصة إكس، تعليقاً تحت صورة أُخذت لمجموعة من الجنود الإسرائيليين يقفون منتشين بجرائمهم وسط مشهدٍ مريعٍ من الخراب: "لقد ابتكروا سيلفي الجريمة ضد الإنسانية"! نعم لقد فعلوا!