جريمة بحقّ الإنسانية
ميّز الفيلسوف الفرنسي، جان جاك روسو، في رؤيته للعقد الاجتماعي بين نوعين من الإرادة، على خلاف المدرسة الإنكليزية المتمثلة بالعقد الاجتماعي الذي وضع أسسه النظرية كل من الفيلسوف توماس هوبز، ونظرته السلطوية المحكمة من ناحية، والفيلسوف الإنكليزي جون لوك، ونظرية العقد الاجتماعي الليبرالية الفردية من ناحية ثانية... الإرادة الخاصة المتمثّلة بإرادة فرد واحد، والإرادة الجمعية العامة المتمثلة بما يتخطّى مجموع إرادات الأفراد. وقد وصل في هذا التمييز إلى مجموعة أبعاد سياسية وقانونية، تقوم على تمييز آخر يتأسّس على الفصل بين الخاص والعام، على اعتبار أن المسّ بالخاص لا يعني استباحة خصوصية الفرد فحسب، بل هي استباحة الهيئة العامة وقرارها الذي يتخطّى الفرد، ليصل إلى ما يتخطّى مجموع الأفراد ضمناً. أي إنه ليس مجرّد مسّ بالسلام والأمان والمصلحة الفردية فقط، بل بالسلام والوئام والمصلحة العامة التي تهيمن على المجتمع، وتتخطّى مجموع المصالح والحقوق الفردية.
انطلاقاً من هذا التمييز، وتأثراً به، واستكمالاً له، وبأثر مباشر من فيلسوف آخر، الألماني إيمانويل كانط، نشأت أولاً عصبة الأمم، ولاحقاً، وبأثر من الإنكليزي برتراند راسل، تطوّرت العصبة فأصبحت الهيئة العامة للأمم المتحدة. ومجمل فلسفة هذه التجمعات الفصل بين الخاص المتمثل بالدول نفسها، وبمصالحها وسيادتها، والعام المتمثّل بمجموع الدول التي يعكس سلامها وسيادتها، والمسّ بهما، مساً بالسلام العالمي، وليس بالسلام القائم بين دولتين تعدّت إحداهما على الأخرى، علماً أنهما نالتا شرعيتيهما من شعبيهما، وهما جزء لا يتجزأ، باعتراف، من مجموع الأمم.
العدو الإسرائيلي لم يعد عدوّاً للفلسطيني، لأنه يحتل أرضه، بل هو عدو الإنسانية نفسها
وعلى المنوال ذاته، يتأسّس التمييز نفسه على تمييز آخر يتخطّى الإرادات والدول، ليصل إلى مستوى الإنسان الفرد، فنجد أن المسّ بالكرامة الإنسانية لفردٍ ما في هذا العالم هو مسّ بالإنسانية جمعاء، فهناك فارق بين الفرد كونه إنساناً، والإنسانية كونها ما يتخطّى مجموعة الناس، فالفرد يتخطّى فرديته لأنه جزءُ من مجموع أفراد يتخطّون وجودهم المباشر، وقد نشأت وتطورت على خلفيتها شرعة حقوق الإنسان، مطلق الإنسان، انطلاقاً من قاعدة ترى أن المسّ بالكرامة الإنسانية وبالحقوق الطبيعية هو مسّ بالإنسانية جمعاء. ولذلك، يستدعي الأمر دفاع الإنسانية عن ذاتها.
إذا ما توسّعنا في هذه القراءة، لتشمل مجمل ما يجري في قطاع غزّة من حرب إبادة يخوضها العدو عليه، انطلق بالتوازي معها سيل من التساؤلات التي لا تتوقّف عند حد، فالعدو لا يقتل الإنسان الفلسطيني فحسب، بل يقتل الإنسانية جمعاء أيضاً، فأي وصف يكون على خلاف ذلك، بعد أن نمعن النظر في الجرائم التي يرتكبها العدو يومياً، وصولاً إلى ترك مصوّر قناة الجزيرة سامر أبو دقة ليلاقي مصيره بالموت متأثراً بجراحه ونزيفه ستّ ساعات متتالية من دون السماح للأطقم الطبية وللإسعافات أن تنقله لكي تداويه، كما تنصّ شرعة حقوق الإنسان، قبل أن يعيد استهدافه بشكل مباشر؟ أي تصوّر للإنسانية بشكل عام، وأي تصوّر لكرامة الإنسان وحقه بالحياة بشكل خاص، بعد مثل هذا التصرف الدنيء والخسيس الذي لا يمسّ بكرامة الجسم الإعلامي وأخلاقياته ومجموعة مبادئه فحسب، ولا يمسّ بالجسد الفلسطيني الذي يتعرّض للإبادة حصراً، بل يتخطّى ذلك ليمسّ الإنسانية جمعاء، ويستبيح مفهوم شرعة حقوق الإنسان؟ فالعدو الإسرائيلي لم يعد عدواً للفلسطيني، لأنه يحتل أرضه، بل هو عدو الإنسانية نفسها، هو على تموضع تام بمواجهة كل القيم والحقوق التي تقوم عليها الأخلاقيات والشرائع الدولية. ولذلك، لم يعد الوقوف إلى جانب الفلسطيني كافياً، بل بات يتوجّب مواجهة مفتوحة مع العدو الإسرائيلي بوصفه عدواً للإنسانية، بعد ما يثبته يومياً من كونه عدواً لكل مفاهيم السلام الكوني والكرامة الإنسانية، خصوصاً في تخطّيه كل الخطوط التي دفعت البشرية حقها دماً عبر هذا التاريخ الحافل بالقتل والقتل المضاد، وكل المواجهات الدامية التي وصلت إلى حد اقتراف المجازر بكل الأشكال الوحشية الممكنة تسلحاً بمصلحية من هنا وأهدافاً دولتية وسلطوية من هناك.
العالم برمّته أمام مفترق طرق أخلاقي وسياسي كوكبي خطير
اليوم، في ظل كل ما يجري، تفتح القضية الفلسطينية الباب أمام السؤال الأخلاقي على مصراعيه، فتتخطّى تموضعها الفلسطيني، لتصبح قضية كونية، وها هي تجذّر المواجهة مع العدو أكثر من ذي قبل، إذ لم يعد من الممكن اختصارها بالتضحيات الجسام للشعب الفلسطيني بين فكي الصهيونية وتحت نير الاحتلال، بل أصبحت معركة محتدمة بين الإنسانية جمعاء والتوحش، هي صراع بين الهمجية والتأنسن، بين مجمل ما يمكن أن تطمح الإنسانية في طور نموها إليه، ومجمل ما يقوّض هذا الطور، ويشرّع الباب أمام كل الهمجيات والعصبيات التوحشية الغرائزية ما قبل الإنسانية.
الشعوب، وعلى خلاف أنظمة كثيرة، بدأت تراجع حساباتها اليوم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، باتت تنظر إلى الصراع من منطلقاته الكونية، فالأمر لم يعد فلسطينياً بحتاً، ولم يعد محصوراً بحركة حماس وبعملية طوفان الأقصى، بل أصبح يطاول الجسم الإعلامي الكوني، والجسم الطبي الأممي، والأمم المتحدة، والكوكب برمته... إلخ. إنه صراع يتأجّج يومياً مع كل مجزرة إضافية يقوم العدو بها. اليوم، العالم برمّته أمام مفترق طرق أخلاقي وسياسي كوكبي خطير، إما أن ينتفض لمجموع القيم الإنسانية، أو يعود إلى الغرائزية وإلى التاريخ البشري بتفاصيله الإجرامية، والتي يندى لها الجبين.